غياب الأحباء… الفراق… الموت بكل جلاله وقسوته وخفاياه وهيبته… مشاعر مرت علي جميعنا أثناء مذبحة ماسبيرو… مشاعر تتخبط ولا تخطط… حزينة لكنها غيرة منكسرة… رغم الحزن فخورة متحررة من أغلال العصر الفائت… تفيض رغم الجرح بالأمل في الحرية… ترسم بوهج النفس المقدامة درب الكرامة وخريطة مصر الجديدة بكل نقطة من دماء مناضليها… وها هم شهداء ماسبيرو يصنعون جزءا من هذا التاريخ… اخترنا مثالا منهم اليوم.
إنه فارس… اسم علي مسمي في زمن عزت فيه سمات الفرسان… فارس… الإنسان والمعني والجسد المهروس تحت سيور مدرعات ماسبيرو… خرج من عمله في أحد مصانع السادس من أكتوبر… هو عامل دهانات… لينضم إلي مسيرة الأقباط المتوجهة إلي ماسبيرو ويوم 9 أكتوبر الماضي… عقب أحداث محاولات هجوم بعض المتطرفين علي كنيسة الماريناب في أسوان… أخذه الحماس… كان ضمن الصفوف الأولي… ثار مع الثائرين… طالب بحقوقه مع الطالبين… لم يفعل شيئا سوي أنه رفع صوته وهتف لا لحرق كنائس مصر…
ترك أبناءه الأربعة… ترك الحلم القادم من رحم زوجته علي أيدي الطفل الخامس ومازال جنينا… ليحقق حلما أكبر في وطن أكثر عدلا… فارس- 39 سنة- مقتولا مدهوسا تحت بطش المدرعة… تقرير الطب الشرعي جاء يقول بالنص: إصابات رضية هرسية وكسور متعددة بالجسم… وفتح بالحوض أدي إلي نزيف شديد ثم إلي الوفاة…
مات فارس… مات أحد الفرسان الذين خرجوا في تلك الليلة عزل من السلاح… لا يحملون سوي اللافتات… حناجرهم تعلن العصيان علي زمن الخنوع… تعلن الخروج من عباءة أي انتماء… إلي عباءة الوطن الموجوع… يبحثون فيه عن لمسة شفاء ربما يجدونها… أبلغ أحد المشاركين في المظاهرة ذويه أنهم في احتياج لسيارة تنقل الرجل إلي أقرب مستشفي… ثم اتصل مرة ثانية ليبلغهم أنهم وصلوا بالفعل بعد أن وجدوا سيارة… ثم عاد وأسرة فارس في الطريق واتصل بهم ليبلغهم أنه لفظ أنفاسه الأخيرة علي أثر النزيف العنيف الذي تعرض له.
إيليا 11 سنة… كرستينا 9 سنوات… كارولين 7 سنوات… جورج ثلاث سنوات… والاسم المجهول في الطريق إلي الحياة حاملا موت أبيه… إنه الطفل الخامس لفارس والذي مازال جنينا… زوجته في شهرها الرابع… تبكي رحيل رجلها… تصرخ في وجوهنا من يعوضني عن رجلي؟… من يربي الأبناء الخمسة؟ من يستقبل علي راحتيه طفلنا الخامس؟ من يدونه في سجلات المواليد… من يحمل عني هي ووجعي وترملي وأنا مازلت ابنة الثامنة والعشرين؟؟
من يطلب عوضا… ومن سيعوضنا… ألسنا مثل شهداء الخامس والعشرين من يناير؟ ألسنا شهداء الثورة؟ ألم نصنع الثورة مثل هؤلاء؟؟ أليست مصرنا كما هي مصرهم؟ ألسنا رعاة دولة؟ فليجيبني أحد… إلي من أتوجه وأطالب بحق فارس؟؟
عم رزق… والد فارس… يبكي ليلا نهارا ولده… يراعي الأبناء لكنه لا يراعي نفسه… يعرف جيدا أنها إرادة الله… لكن الحنين إلي الضني يغلب قلبه… والحنين إلي عدل الوطن غلب ابنه.
طالعت كشوف الشهداء في ماسبيرو وعلمت ظروف معظمهم… وتساءلت: لماذا كل شهدائنا فقراء؟ لماذا يدفع المطحونن والمقهورن والغلابة ثمن الحرية… وسطوة الغلاة؟ لماذا يزج الناس بأنفسهم إلي روعة الاستشهاد… ويتركون خلفهم جحيم الحياة وبؤس الحال… وقلة الحيلة… وعجز المسئولية؟؟ أسئلة ربما لا أجد إجابة عليها الآن… لكن ربما نجد فيما بعد عندما تستنير مصر… عندما نجني ثمار الثورة… عندما نخرج بها من مرحلة الفوضي… عندما نجمع ذرات أجساد الشهداء في جلباب المواطنة ونلبسها حلة العدالة… ونزفها عروسا لوطن يحمي مواطنيه أيا كانت انتماءاتهم.
فارس مجرد مثال تفصيلي لمن ناضلوا تحت وطأة الهرس وطلقات الرصاص… لمن أبكوا العالم كله… وضربوا أروع مثل لبذل الذات فداء الوطن وليس فداء لعقيدة كما أدعي البعض… وليس حبا في الشهرة ولا ضربا من الجنون… وإنما أملا في دنيا العدل… كثيرون خرجوا مثلما خرج فارس وعادوا إلي ذويهم لكن بعاهة مستديمة تعوق استمرار حياتهم بشكل طبيعي ومنهم من عاد نصف إنسان… شوه الغدر نفسه… وصنعت القسوة بروحه ما لم يصنعه ظلك العهود البائدة… 28 شهيدا… أكثر من 300 جريح..
شهداء ماسبيرو… مصابين التاسع من أكتوبر… ومن هم قيد الاعتقال الآن… لأجلي ولأجلك ولأجل مصر الجديدة… هم أحوج ما يكون الآن إلي المساعدة… إلي يد حنونة تمتد لتمسح دموع أبنائهم… وتجبر كسر ذويهم… إلي من يحمل مسئولية أطفالهم ورعايتهم… ربما تهدأ أرواحهم وتستكين بعد نضال.