ماذا يخفي الهدوء النسبي الذي تشهده شوارع المدن الإيرانية هذه الأيام؟ هل يعني ذلك أكثر من أن المواجهة مستمرة بين الإصلاحيين والمحافظين ولكن بوسائل أخري؟ الأكيد أن المحافظين بزعامة المرشد السيد علي خامنئي حققوا مكاسب في الجولة الأولي التي تلت إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية. لكن الأكيد أيضا أن شيئا ما أصيب بتشقق في إيران. صورة النظام اهتزت. ضربت هيبة النظام. لم يعد في الإمكان الحديث بفخر عن النموذج الإيراني. صار النموذج من الماضي, تماما كما حصل مع الاتحاد السوفييتي والدول التي كانت تدور في فلكه قبل عشرين عاما بالتمام والكمال. في عام 1989, انهار جدار برلين. كانت تلك الإشارة الأولي إلي أن ما سقط لم يكن مجرد جدار. كان تحطيم الجدار بأيد بشرية أول الغيث. ما حصل في تلك اللحظة كان بداية النهاية للحرب الباردة ولما سمي الشرعية الثورية التي سمحت بقيام أنظمة ديكتاتورية في أوربا الشرقية. ما تشهده إيران اليوم شبيه إلي حد كبير بما شهدته أوربا الشرقية في عام .1989 ما في الأمر كله أن البلد انقسم علي نفسه. لم يعد هناك مكان لولي الفقيه المعصوم الذي يستطيع أن يفعل ما يشاء من دون أن يكون هناك من يحاسب. للمرة الأولي منذ ثلاثين عاما, طرأ تغيير أساسي في إيران. لم تكن الانتخابات الرئاسية نقطة التحول ولا الاعتراض علي النتيجة ولا حتي نزول الناس إلي الشارع مطالبين بالحرية. كانت نقطة التحول في التمرد علي المرشد السيد علي خامنئي الذي دعا في خطبة صلاة الجمعة إلي وقف التظاهرات وأي نوع من الاعتراض علي نتائج الانتخابات. نزل الناس إلي الشارع ومازالوا يعترضون يوميا علي نتائج الانتخابات. لم يعد الإيرانيون يقبلون بالشرعية الثورية التي يستمد منها خامنئي سلطته. إنهم يبحثون بكل بساطة عن بلد طبيعي متصالح مع نفسه ليس في حاجة يومية إلي أعداء لتبرير حال التعبئة التي يفرضها النظام علي المواطن العادي.
طوال الأعوام الثلاثين الماضية, عاشت إيران في حرب مع عدو ما. هناك حاجة دائمة إلي عدو ما. في البداية, قدم لها صدام حسين المبرر علي طبق من فضة. مكن صدام بغبائه المعهود النظام الطري العود, عبر الحرب التي شنها في عام 1980 بحجة منع تصدير الثورة إلي العراق, من الانقضاض علي أعدائه في الداخل وفرض دستور وضع علي قياس زعيم الثورة ومؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني. انتهت الحرب العراقية – الإيرانية في عام …1988 لكن الثورة استمرت وكأنه كتب علي هذه الثورة الموت من دون عدو خارجي ومن دون شعارات من نوع الموت لأمريكا والموت لإسرائيل, وذلك رغم حصول إيران علي أسلحة إسرائيلية في حربها مع العراق. هل هناك من يريد أن يتذكر فضيحة إيران جيت؟
ما نسيه القيمون علي النظام الإيراني أن بلدا ذا حضارة عريقة يتوق الشباب فيه إلي ثقافة الحياة لا يستطيع العيش إلي ما لا نهاية في ظل الشعارات والحاجة الدائمة إلي عدو ما. ما نسيه النظام أن نسبة سبعين في المئة من الإيرانيين دون الثلاثين من العمر, وأن هذه الفئة ليست معادية للغرب ولا يهمها شعار المقاومة ولا المتاجرة بالشعب الفلسطيني ولا بالورقة اللبنانية ولا باحتلال الجزر الإماراتية الثلاث ولا بتهديد البحرين ولا بالسعي إلي تطويق السعودية عن طريق الحوثيين في اليمن ولا بالسعي إلي امتلاك موطئ قدم في إريتريا أو باختراق السودان ولا بتحويل جزء من العراق إلي محافظة إيرانية أو ما شابه ذلك. هذه الفئة من الإيرانيين تعرف أن المقاومة الحقيقية هي مقاومة لثقافة الموت. إنها المقاومة التي يؤمن بها الاستقلاليون في لبنان الذين انتفضوا في وجه الأدوات الإيرانية ومنعوها من الاستيلاء علي الوطن الصغير في السابع من يونية الماضي, وهو يوم مجيد بالفعل. يومذاك, صوت اللبنانيون مع الرابع عشر من آذار معلنين رفضهم للشرعية الثورية التي سقطت مع سقوط الاتحاد السوفييتي, كما سقطت في إيران يوم تمرد المواطن العادي علي المرشد.
لم يعد سرا أن الإيرانيين يريدون الحرية. ولم يعد سرا أن إيران تغيرت. الدليل علي ذلك أن الاحتجاجات لم تتوقف وأن المواطنين يخرجون يوميا إلي سطوح المنازل والبنايات لإطلاق شعارات تنم عن الرغبة في التغيير. في النهاية, صار السؤال المطروح حاليا ما انعكاسات الحدث الإيراني علي الصعيد الإقليمي؟ لا شك أن النظام السوري بدأ يفكر منذ الآن في كيفية الخروج من تحت المظلة الإيرانية. وقد سارع في توجيه رسائل إلي أكثر من جهة في المنطقة, فحواها أنه ميز نفسه عن الموقف الإيراني خلال الانتخابات النيابية في لبنان ولم يقدم علي أي عمل يشتم منه أنه يسعي إلي عرقلة الانتخابات أو مساعدة مرشحين معينين محسوبين علي فريق الثامن من آذار. قد يكون هذا الكلام صحيحا, كما قد لا يكون كذلك. هناك من صدق رواية النظام السوري وهناك من يمتلك أدلة تدحضها. لكن الأكيد أن هناك في دمشق من يعيد حساباته في ضوء ما يجري في شوارع طهران.
يبقي الأهم من ذلك كله أن المرآة التي اسمها النظام الإيراني تشققت. لم يعد هناك من يستطيع الدفاع عن نموذج اسمه النظام الإيراني مادام هذا النظام يقمع كل من يرتدي ألوانا زاهية وينزل إلي الشارع مطالبا بالحرية. كم ستدوم الثورة علي الثورة التي انطلقت حديثا في إيران؟ المسألة مسألة وقت ليس إلا. قد تحتاج إلي أسابيع أو سنة, لكن منطق التاريخ يقول بكل بساطة إنه ليس في استطاعة أي نظام في العالم لا يمتلك قاعدة اقتصادية صلبة ومؤسسات حديثة اتباع سياسة توسعية علي الصعيد الإقليمي أو العالمي بدون السقوط. استطاعت الصين أن تكون استثناء بفضل اقتصادها قبل أي شيء آخر. وما أدي إلي انهيار الاتحاد السوفييتي الذي امتلك في مرحلة ما ترسانة عسكرية متقدمة علي الترسانة الأمريكية كان الاقتصاد. من لا يمتلك اقتصادا قويا متنوعا ومؤسسات حديثة ونظاما ديموقراطيا لا يستطيع أن يكون قوة إقليمية يحسب لها ألف حساب. في استطاعة أي نظام أن يبحث في استمرار عن عدو لتبرير نظرية الشرعية الثورية. هذه لعبة كلاسيكية مارسها كثيرون قبل النظام الإيراني. لكن لهذه اللعبة نهاية. ما نشهده حاليا بداية النهاية, أو علي الأصح بداية تصدع للنموذج الإيراني… لبنان سيكون من بين الأماكن التي ستتأثر إيجابا بالحدث الإيراني بغض النظر عن العواطف والتمنيات!
كاتب لبناني مقيم بلندن