تجربة الخسائر.. خبرة تستحق أن تروي رغم أنها كانت مجرد جزء من الدورة التدريبية لبرنامج الإيدز إلا أنها إضافة بكل المقاييس جرب المدربون مع المتدربين لعبة الخسائر الأشبه بالكوتشينة ليعتبر كل منا نفسه متعايشا مع الإيدز لمدة نصف ساعة فيحمل 12 ورقة مكتوبا علي كل واحدة منها أحد الاحتياجات المادية أو المعنوية التي لا غني عنها ويتصور أن إصابته بالمرض حتمت عليه أن يختار بملء إرادته رغم أن المتطلبات المادية والمعنوية يصعب علي البعض أو يستحيل علي البعض الآخر العيش بدونها وهي وجود الأحباء, الخطط المستقبلية, الأمان المالي, التفكير العقلاني, الإقامة, الحياة الاجتماعية, الترابط المجتمعي, الحركة الجسدية, النشاطات المفضلة, الأسرة, المنزل.
اختار كل منا أقل المتطلبات أهمية له فمنا من قرر فقد الأنشطة المفضلة كالرياضة والفنون والموسيقي ويقول لسان حاله لن تفتح الأندية أبوابها أمامي والحياة الاجتماعية فالأصدقاء والجيران وزملاء العمل مستاؤون من علاقتهم بي. أيضا لا داعي للخطط المستقبلية,أصبحت بلا مستقبل فلن يقبل أحد أن يكون شريكا لحياتي ولن يكون لدي أطفال.
وسأحاول العيش دون مساندة أو قبول المجتمع لي حتي مقر إقامتي جردني الإيدز منه بعدما علم ملاك المنزل بإصابتي فخشوا العدوي. لكن الحقيقي ليس الإيدز هو ما جردني من حقوقي وإنما المجتمع الذي رفضني وأصابني بالوصم ولم يعاملني كمريض يحتاج للرعاية بل كمجرم يجب استئصاله.
إنه من الصعب جدا أن أتعايش مع المجتمع الآن لكن يكفيني وجود أحبائي حولي الأسرة والأبناء وشريك الحياة وسيعوضونني عن لفظ المجتمع لي, وامتلاكي لقدراتي الجسدية والذهنية سيساعدني علي تحقيق الأمان المالي وحصولي علي وظيفة تساعدني في الإنفاق علي أسرتي, وهكذا تسير الحياة.
استمرت لعبة الكوتشينة وكل منا يتصور أنه مصاب ثم بدأ المدربون يطلبون من كل شخصين متجاورين في المجلس أن يخطف كل منهما 3 ورقات من الآخر رغما عنه لنجرب ما يمكن أن يخطفه المرضي والمجتمع منا دون اختيارنا.
حوار من نوع آخر بدأ بداخل كل منا مع اختطاف زميله لأول ورقة ومع اختطاف الورقة الثالثة اختطفت قلوبنا كما لو كنا مصابين نفقد حياتنا ولسان حالنا يقول العذر مصمم علي انتزاع القليل الذي أعيش به. ففي هذه المرحلة أنا لست مغيرا ولكن سأكون أقرب إلي واقع مريض الإيدز الحقيقي. فالمرض والمجتمع غير الواعي لن يمنحني حرية الاختيار في فقد أقل الأشياء أهمية. لكنهما اغتصبا مني الآن ما لا أستطيع العيش بدونه.. الحياة أصبحت مستحيلة فكيف سأعيش؟ ولماذا؟ ولمن؟ كيف أستطيع تدبير نفقات علاجي وقد أقالوني من عملي؟ أشعر أن روحي تؤخذ مني. عار مجرد من كل الحقوق عالة علي من حولي فلا أحباء ولا مستقبل ولا مساندة ولا قدرات جسدية أو ذهنية.
من منا لم يخطئ أيا كان نوع الخطأ؟ فلماذا يكون العقاب جماعيا؟ لماذا يتضامن الجميع ضد مريض الإيدز؟ وهو الأولي بالرعاية والحنو؟ حتي لو أخطأ فالله يغفر للجميع ألا يغفر الناس لبعضهم بعضا.
كانت تلك العبارات هي ما أفرزته تجربة الخسارة من فهم عميق لمشاعر المريض واقتناعا وإيمانا بحقه في الحياة الطبيعية معتبرين أن جميعنا قد نكون في مكانه يوما ما.