قام محمد علي وعهد خلفاؤه بإحداث تغييرات كبري في مصر جعلت مصر درة المجتمعات العربية,وتعددت وتنوعت هذه التغييرات فمنها ما كان سياسيا,فقد عرفت مصر الدستور والبرلمان منذ أقل قليلا من مائة وخمسين سنة. ومنها ما هو اقتصادي,فقد كانت الإسكندرية خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر إحدي أكثر عشر مدن في العالم جذبا للاستثمارات الخارجية. ومنها ما هو تعليمي وثقافي,فقد كانت بمصر كلية للطب منذ أقل قليلا من قرنين وكان بها من يترجم أرسطو وجوستنيان منذ أكثر من قرن من الزمان. كما أنها كونت في سنوات ما قبل 1952 العربي الوحيد الذي حصل علي جائزة نوبل في الأدب.
* كان المجتمع المصري أول مجتمع في أفريقيا والشرق الأوسط يتطور ويوجد فيه مفهوم المواطنة بمعناه الحديث.
* شهدت حقبة ما قبل 1952 تجربة مصرية ليبرالية عارمة في السياسة والثقافة معا.
* تكونت خلال السنوات ما بين 1805 و1952 طبقة وسطي مصرية ربما كانت من حيث الجودة واحدة من أرفع وأرقي الطبقات الوسطي في العالم يومئذ.
* كانت الطبقة الوسطي ذات النوعية الرفيعة قبل 1952 طبقة صغيرة (عدديا) ولم تستوعب حتي 10% من المصريين.
باستثناء المصريين من أبناء الطبقة العليا وسائر مستويات الطبقة الوسطي (الوسطي العليا, والوسطي الوسطي والوسطي الدنيا) فقد كان المصريون الآخرون (ربما أكثر من 90% من المصريين) يعيشون في ظروف بالغة البؤس والفقر والتخلف والبدائية والقسوة (كتاب واحد مثل المعذبون في الأرض لطه حسين يدل علي بؤس حياة تلك الأغلبية من أبناء وبنات الشعب المصري الذين عاشوا وماتوا في فقر وجهل ومرض وشروط حياتية بالغة التدني).
* تدل التداعيات السياسية في مصر خلال السنوات من 1942 وحتي 1952 أن استمرار الحال كان من الظلم البين للأغلبية العظمي من المصريين. وأن شيئا ما كان من الضروري (وربما من المحتمل) أن يحدث.
* رغم أن ما وقع يوم 23يوليو1952 سماه قادته بأنفسهم انقلاب وحركة جيش مباركة ثم أطلق عليه بعض المثقفين اسم الثورة وبالتالي فإنه لم يكن ثورة شعبية,إلا أن 90% (علي الأقل) من المصريين والمصريات تعاطفوا معها وآملوا أخيرا فيها.
* حتي سنة 1936 لم يكن يدخل الكلية الحربية إلا من كان أهله يملكون حدا أدني من الملكيات. ومع اتفاقية 1936 المعروفة,ألغي هذا الاشتراط. وكان من بين أول أبناء البسطاء الذين استفادوا من هذا الإلغاء معظم من قادوا حركة الجيش يوم 23يوليو1952 -والمعاني السياسية والثقافية والاجتماعية والطبقية لتلك الحقيقة أوضح من أن يشرحها أحد.كما أنها حقيقة لا تعاب,فهي ترجمة واضحة لما سبق وأن أوضحته من كون الطبقة الوسطي المصرية قبل 1952 كانت ممتازة النوع,صغيرة الحجم,وأن أكثر من تسعين في المائة من المصريين كانوا يعيشون ليس فقط خارج العصر وإنما في ظل ظروف حياتية شديدة البؤس,وعندما سمح لأبناء بعض الهؤلاء بدخول الكلية الحربية فقد كان من الطبيعي (إذا اتتهم الفرصة) أن يقوموا بمحاولة تغيير الأمور,بل وقلب الطاولة تماما.
* المستوي التعليمي والمعرفي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي لكل المجموعة التي قامت بحركة الجيش يوم 23يوليو1952 كان بين بسيط ومتواضع وضحل. وأيضا ليس في ذلك عيب,فليس هناك من يشترط أن يكون الثوار من نوعية تسمي جيفارا. وبدون شك فإن المستوي القيادي لكل هؤلاء كان (كنتيجة طبيعية للمستويات الأخري) بين بسيط ومتواضع وضحل (عبد الحكيم عامر كمثال لقائد عام لقوات مسلحة ضخمة تمت ترقيته من رتبة رائد إلي لواء وهو في الثالثة والثلاثين من عمره وظلت لغته وأسلوبه يفضحان مستواه التعليمي والمعرفي والثقافي بالغ الضحالة.ويمكن ضرب أمثلة أخري برجال مثل كمال الدين حسين, وحسين الشافعي -فقد كانا أدني ما يكونا لغير المتعلمين). ومرة أخري,فإن هذا لم يكن بالأمر الغريب,وإنما كان الأمر الغريب أن يصر شباب البسطاء أن يمارسوا العمل القيادي والتنفيذي بشكل مباشر (كأن يقود عبد الحكيم عامر القوات المسلحة أو يرأس كمال الدين حسين كافة المؤسسات التعليمية والبحثية!!).
* كان قائد حركة 23يوليو1952 صاحب حلم نبيل مؤكد بتوسعة الطبقة الوسطي أي بنقل أعداد كبيرة من الـ90% الذين كانوا يعيشون في ظروف حياتية بائسة إلي كوادر أو شرائح الطبقة الوسطي,بما يعنيه ذلك من مشاركة سياسية وظروف عمل ومعيشة وتعليم. هذا الحلم النبيل كان جوهر مشروع عبد الناصر السياسي الداخلي.
* أية عملية تقييم لما أنجزه النظام الجديد بشأن هذا الحلم أي حلم توسعة الطبقة الوسطي لا يمكنه إنكار ما يلي:
أولا: إن تحسنا لا نكر طرأ علي الظروف الحياتية لأكثر من تسعين بالمائة من المصريين الذين كانوا دون الطبقة الوسطي قبل 1952.
ثانيا: إن فلولا من الطبقات التي تحت الطبقة المتوسطة الدنيا أتيح لها أن تلتحق بالطبقة الوسطي بشرائحها الثلاث (الوسطي الدنيا + الوسطي الوسطي + الوسطي العليا).
ثالثا: إن هذا الاتساع الكبير في حجم الطبقة الوسطي كان اتساعا عدديا (رقميا) ولم يكن اتساعا نوعيا. بل إن المستوي الكلي للطبقة الوسطي (بشرائحها الثلاث) التي كانت موجودة قبل 1952 قد أخذ في الانهيار النوعي بمعني أن الوافدين أخذوا السابقين (أو معظمهم) معهم إلي أسفل من حيث النوعية والجودة. وهذا أمر طبيعي عندما يصر ثوار نصف متعلمين وغير مثقفين أن يقودوا العمل التنفيذي بأنفسهم وهم غير مؤهلين البتة لذلك.
* إن الحكم المطلق للبعض بأن ما قبل 1952 كان صوابا وخيرا هو خطأ لا ينبغي إضاعة الوقت في مناقشته,كذلك فإن من يعتقد أن نظام يوليو حقق حلمه بتوسعة الطبقة الوسطي توسعة عادلة وعلي المستوي العددي الرقمي والنوعي الجودة هو -بنفس القدرس- إنسان حزبي أو مؤدلج وليس بإنسان ينظر للتاريخ القريب للتعليم واستخلاص الدروس والعبر.
* إن سبعينيات القرن العشرين في مصر شهدت عملية خلق أفضل مناخ محلي للأصولية الدينية لتنشر فكرها ودعوتها. وإن خفايا هذه الخطيئة غير واضحة للآن,لا سيما أن صاحب تلك السياسية الذي استعمل تيارا معينا لإحداث توازن استراتيجي في مواجهة تيار آخر لم يكن مؤيدا له سقط يوم 1981/10/6 صريعا برصاص التيار الذي استعمله قبل عشر سنوات من حادث المنصة.