لن نتردد في إعلان موقفنا الداعم لحقوق المرأة, ونطرح شعارا أو اثنين يعبران عن أصالة موقفنا.. وأن حقوق النساء ضمن منهجنا ورؤيتنا. أجل, نحن من أجل حرية المرأة ومساواتها. نحن من أجل الاعتراف بأنها إنسان مساو لنا تماما, ولكن عندما يقترب الموضوع من نسائنا فهذا هو الحد الذي لن نسمح به.
يؤسفني أن أقول إن ما كتبته أعلاه حقيقة يمارسها الكثيرون من دعاة ومؤيدي حقوق المرأة العربية تحديدا, والمعبرين عن دعمهم لمساواة المرأة في حقوقها الاجتماعية والقانونية كمواطن وإنسان.
بالطبع موقف القيمين (من أوكلهم؟) علي قيمنا وأخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا وديننا.. لن أورده, لأنه نوع من الطرح العبثي الممل..
أراه أن واقع المرأة في تراجع نسبي كبير, يمثل مجمل التراجع في تقدم المجتمع المدني العربي. إذ لا يمكن تحقيق تقدم في قضية المرأة طالما ظل مجتمعها قبليا في مبناه وعلاقاته, ويحرمها من الحقوق السياسية المتساوية ومن فرص النمو والتعليم والتقدم في تطوير قدراتها الخاصة ووعيها, ومشاركتها في عملية التنمية الإنسانية والاقتصادية لمجتمعها.
فهل نتوقع, في إطار واقع متعثر مدنيا, أن نحرز تقدما في مجال إنجاز نهضة نسائية واجتماعية تغير واقع المرأة, ويفتح أمامها وأمام مجتمعاتنا آفاقا جديدة, وإمكانيات أخري تعمق دورها ومسئوليتها؟ هل انتهت الظاهرة القبلية لقتل النساء بحجة شرف العائلة..؟ هل تقلص العنف المنزلي ضد النساء؟ هل انتهت الظاهرة من القرون الحجرية بتشويه الأعضاء التناسلية للإناث؟
هل تغير واقع المرأة في الدول العربية الـ17 من بين الـ21 دولة عربية التي وقعت علي اتفاق القضاء علي كافة أشكال التمييز ضد المرأة, ولكنها قيدته بتحفظات تشريعية وطنية أو بنسف بعض بنوده التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية؟. هل واقع المرأة بظل التمييز والقمع والقتل يتمشي مع الشريعة, ومع التشريع الوطني؟؟ ألا تكتمل وطنيتنا إلا بقمع المرأةو ولا ندخل الجنة إلا إذا كنا مميزين عن النساء؟
الواقع تغير نصا, ولكنه نفس الواقع السائد في الدول التي لم توقع علي الاتفاق.
تساهم المرأة في الدول المتقدمة بحصة تكاد تكون مساوية لحصة الرجل في جميع نواحي الحياة.. في عالمنا العربي أري أن المرأة, حتي الأكاديمية, تخضع لقيود مستهجنة, يفرضها مجتمعها ونظامها, يقرر إلي مدي بعيد تحركها وحجم قيودها, حتي في المجتمع الأكثر تنورا, علي صعيد الدول العربية, نجد أن واقع المرأة لا يختلف بمجمل مضمونه, وليس سرا أن مستوي دخل المرأة من نفس العمل هو ما دون مستوي دخل الرجل. ولكن هذه الظاهرة تخفي واقعا أشد مرارة, واقع اتساع البطالة في صفوف النساء بالمقارنة مع الرجال.
ولكن الظاهرة المقلقة حقا تقع في مجال آخر كليا.
دأبت تقارير الأمم المتحدة خلال السنوات الماضية, علي وضع اليد علي واقع مذهل من التخلف في المجتمعات العربية, يطال النساء والرجال, وغني عن القول أن واقع المرأة هو الواقع الأكثر سوءا والأكثر مرارة.. خاصة في موضوعين أساسيين:
أولا: البطالة التي تطال نسبة عظيمة من النساء, ومنهن جامعيات.
بالطبع وضع الرجل لا يقل سوءا, والمعروف أن غياب تخطيط حقيقي للتنمية, وغياب أبحاث أكاديمية حول التنمية وآفاقها واحتياجات الأسواق العربية, والربط بين الاقتصاد ومعاهد الأبحاث (الغائبة) في الجامعات, يقود إلي فوضي, أو تنمية ارتجالية لا تتجاوب مع المتطلبات الملحة للمجتمعات العربية, ولا مع توفير أماكن عمل حسب احتياجات النمو السكاني. إن فرص خلق أعمال جديدة يسير ببطء شديد ويقود إلي تعميق استغلال عمل النساء, وهذا يبرز بالأجور المتدنية جدا. وبات إيجاد مكان عمل, صدفة سعيدة تتمسك بها المرأة وتصمت عن واقع إملاقها وسحقها كإنسان.
الصدفة ليست تخطيطا. وإذا وجد التخطيط نجده مشوها ويخدم قططا سمان حسب التعبير المصري لأصحاب النعمة, المسيطرين علي حصة الأسد من الإنتاج القومي لدولهم. حقا هناك منظمات نسائية عديدة تنشط من أجل حقوق المرأة, ولكني لا أكاد ألمس نشاطها وما تثيره في طروحاتها, ويبدو أن هناك نهج تعتيم علي نشاط تلك المنظمات.
تقارير البطالة في العالم العربي تتحدث عن أرقام رهيبة تصل إلي 25-30 مليون عاطل عن العمل, ولا أعرف هل تشمل هذه الأرقام مجمل الراغبين بالعمل, أم فقط المسجلين رسميا؟ وهل تشمل مجمل نساء الوطن العربي القادرات علي العمل؟
حين نجد أن المرأة في المجتمعات الصناعية المتطورة تشكل ما يقارب نصف عدد العاملين, نجد أنها في المجتمعات المتخلفة لا تشكل أكثر من 15% وربما أقل كثيرا -(وأعني بتعبير المتخلفة, التخلف الاجتماعي والصناعي والتقني والعلمي والثقافي والتعليمي وأسلوب إدارة الحكم, والتخلف بالضمانات الاجتماعية والصحية والبني التحتية وغيرها).
إن خروج المرأة للعمل هو جزء من مساواتها وحريتها في القرار بما يتعلق بمصيرها أسوة بالرجل.
المرأة التي تفتقد للدخل لن تكون حرة ولن تصل إلي المساواة حتي ولو كانت تحمل عشر شهادات دكتوراة.
ثانيا: المؤشر الآخر المرتبط ارتباطا وثيقا بهذا الواقع, هي نسبة الأمية المرتفعة جدا بين المواطنين من الجنسين, وخاصة بين النساء.
هل يتوقع أحد أن ينشأ جيل مثقف متعلم في أحضان نساء جاهلات؟
لا ليس تهجما علي المرأة, هذا الواقع ليس من مسئوليتها, لأنها تخضع لتحكم الجاهلين حتي لو كانوا أكاديميين بتحصيلهم.
ما الذي يعطي المجتمعات العربية قوة الاستمرار, عكس التيار العالمي, من موضوع حقوق المرأة, وحقوق الإنسان بالتحديد؟
دول عدة كانت أكثر تخلفا وعصبية تجاوزت واقعها إلي مجتمع مفتوح ديموقراطي, تشكل فيه العلوم والاقتصاد قاعدة تضعها في مقدمة دول العالم.. وجعلت للمرأة مكانة متقدمة في وظائفها الاجتماعية والاقتصادية, وهل من نموذج أفضل من المجتمع الياباني؟
هل تدهور وضع المرأة, من ناحية الأخلاق مثلا.. في اليابان, نتيجة الانفتاح علي الحضارة العالمية والمساهمة بنشاط في إنجاز خيرات مادية وثقافية جعلت من اليابان نموذجا دوليا للتقدم؟
هل واقع المرأة الجاهلة في مجتمعنا العربي, والحديث عن عشرات ملايين النساء (ربما أكثر من 70 مليون امرأة أمية عدا المحرومات من حرية القرار والعمل) أفضل وأكثر احتراما وأخلاقا من واقع المرأة اليابانية؟
المرأة في الصين.. لم يكن وضعها أفضل من حال المرأة العربية.. ولكنها اليوم تشكل قوة علمية إنتاجية في إطار المجتمع والاقتصاد في جمهورية الصين.. بعد أن أعطيت الحقوق الكاملة المساوية للرجل.
وهناك العديد من النماذج في مختلف دول العالم..
في الواقع أنا لا أري فصلا بين واقع المرأة وواقع الرجل في مجتمعاتنا العربية.. أو غيرها من المجتمعات.. حيث التخلف والفقر من نصيب الرجل أيضا, مما يعني أن واقع المرأة في الحضيض.
لن يكون أي تغيير مأمول مع استمرار هذا الواقع العربي المتهاوي. ما أراه, ويراه العديد من المختصين والباحثين العرب, أن عالمنا العربي يعيش بوهم قاتل بأن طفرة النفط دائمة أبدا, وأري علاقة شرطية بين الحفاظ علي تخلف المرأة, وحقبة النفط التي أطلقت تشويها نفطيا للفكر الاجتماعي والديني أيضا.
حتي اليوم لا أري أن الأنظمة النفطية, طرحت بدائل لما بعد حقبة النفط, الذي ظهر في أرضنا القاحلة.
العكس هو الصحيح. هناك انفلات في الصرف وتبذير قبلي للأموال, والعجز عن رؤية الواقع بعد عدة عقود, حين ينضب النفط, أو تبدأ دول العالم إنتاج طاقة جديدة.. وقد بدأت هذه المرحلة بالفعل, ومع ذلك ما زالت أنظمتنا تعيش بخمول عقلي, مطمئنة أن جيلها علي الأقل لن يواجه المشكلة التي من المتوقع أن تواجه ورثاءهم.. ومن بعدي فلتخرب الدنيا!!
إني أعتقد أن بدء مرحلة إنشاء اقتصاد بديل للاقتصاد النفطي, سيقود إلي تغييرات اجتماعية عميقة, تنعكس أيضا علي واقع المرأة العربية. إن أي نهضة اقتصادية, حتما ستفرض تغييرات عميقة في المجتمع, لابد أن يكون أبرزها خروج المرأة للعمل, والاحتياجات العلمية والتقنية لمتخصصين ومتخصصات في برامج الإنتاج الجديد.
والسؤال رغم ذلك يعيدنا إلي الواقع المر: ماذا يعد العرب للمستقبل؟
ماذا يعدون لمرحلة ما بعد النفط؟
إن الانفلات في ضبط مسألة الزيادة السكانية يطرح قضية أكثر خطورة علي واقع المجتمعات العربية, وعلي الفرص أمام تغيير واقع المرأة خاصة والواقع الاجتماعي عامة.
هناك انفلات سكاني.. تسيب بعدد الزيجات.. أطفال بلا مستقبل يفدون دون تخطيط لهذه الحياة. هل نكشف أمرا جديدا إذا قلنا إن الدول النفطية الغنية تشمل سكانا في فقر مدقع يزدادون وسيشكلون في المستقبل مشكلة اجتماعية وأمنية لأي نظام كان؟
ما من شك بأن أخطر ما ستواجهه المجتمعات العربية, هو غياب الفكر التنويري من مؤسسة صناعة القرار, الأمر الذي يعرقل طرح بدائل اجتماعية واقتصادية للمستقبل المقبل بعاصفة من التغييرات في التفكير ونوعية الإنتاج الاقتصادي والعلوم والتقنيات ومبني المجتمع البشري ومبني الأنظمة
إذن كيف سنواجه المستقبل؟ ماذا أعددنا لما بعد حقبة النفط؟
لماذا لا تستغل الأموال الفائضة في البنوك (وتقدر بعدد كبير من تريليونات الدولارات) لإحداث نهضة اقتصادية تعتمد علي الصناعات غير النفطية؟
لا أظن أن أحدا من المتحكمين بالقرار العربي يعرف الإجابة.
هل من الممكن أن نواصل الحياة بشعارات براقة أشبعتنا لغوا, ولم تقدم لنا إلا المزيد من التخلف؟
حان الوقت لمراجعة فترات الثورات (الانقلابات) العربية, وما أنجزته (بالمفهوم السلبي) للواقع العربي.. وبدء تحرك إصلاحي شامل.
حان الوقت لإعادة برمجة كل حياتنا.. من ألفها إلي يائها.
حان الوقت لنفهم أن مجتمعنا متنورا متقدما اجتماعيا واقتصاديا وعلميا, لن يكون دون مشاركة كاملة للمرأة في التخطيط والإنتاج والبرمجة المستقبلية, وإقرار القوانين وشكل نظام الحكم.
ويؤسفني أني لا أري مستقبلا مثل الذي أحلم به.
ما أراه استمرار في السقوط إلي الحضيض!!
ما أراه المزيد من الاضطهاد الشوفيني الذكوري للمرأة العربية.
ما أراه بقاء العالم العربي خارج التاريخ الإنساني.
وما أراه مزيد من التمرد للمرأة العربية, ومزيد من الهرب من مجتمعها لآفاق رحبة خارج مجتمعها..
لا أري التغيير في المستقبل القريب.. أو الأكثر بعدا, في ظل الفكر الذكوري القمعي السائد.