كثيرون يهربون من الماضي ويودون ألا تعود بهم الأيام مرة ثانية حتي لا يعايشون ما عايشوه طيلة فترة طفولتهم من ألم وقسوة وحزن وكلما جاءت فرصة للبعض للحديث عن تلك الفترة تجدهم وبشتي الطرق يتهربون من الموقف والسبب مجتمعنا بنظرته غير الموضوعية تجاه كل من عاش وتربي داخل ملجأ لينبذه المجتمع في كل يوم جارحا مشاعره وأحاسيسه, فبدلا من أن يخفف عنه ويزيح من علي كاهله همومه وأحزانه تجده يزيد من أحماله الكثير والكثير ليصبح كملف أسود في حياته خاصة عند التقدم للزواج, حيث يتم رفضه لأنه تربي في أحد الملاجئ!!.
فما أسباب تلك النظرة, وكيف يمكن تغيير نظرة المجتمع لتلك الفئة؟.
يقول د.كمال مغيث خبير تربوي بمعهد البحوث التربوبية إن الآباء يتوقعون كل ما هو أفضل لأبنائهم في كافة نواحي الحياة ولاسيما مسألة الزواج منها, وحينما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن يطلب الابن الارتباط بفتاة تعيش في ملجأ أو تتطلع الابنة الزواج من شخص عاش فترة طفولته في ملجأ؟ هنا تحدث الزوبعة الكبري بالرفض التام دون الرجوع عن القرار بأي شكل من الأشكال وكأنه حكم صادر من المحكمة واجب التنفيذ بلا استئناف ليصبح بلا رجعة فيه.
ومشكلتنا هي الحكم علي الأمور من منطلق رؤيتنا وليس من منظور الآخر, فماذا لو اغمضت عينك لدقائق ووضعت نفسك مكان من عايش هذه الظروف, تري كيف سيكون حالك؟ هل ستحكم حكمك الأعمي بهذه الصورة أم ستتغير النظرة وستتروي في اتخاذ قرارك؟.
ويستطرد د.مغيث: في اعتقادي أن سبب رفض الأهل وعدم تقبل فكرة زواج أبنائهم من هؤلاء يرجع للثقافة المصرية المنساقة وراء أفكار تقليدية صماء قائمة علي فكرة الأحكام المسبقة للشخص من خلال النظر للعائلة والإمكانيات والحسب والنسب والجاه والمال, دون أن تقوم علي فكرة أن الإنسان هو الذي يصنع نفسه وهذا بالطبع يعد شكلا من أشكال التخلف الثقافي وعدم الاعتراف بحق الإنسان في أن يصنع مصيره ومستقبله.
وهكذا يظل مجتمعنا بعاداته وتقاليده يحكم علي الشخص من ظاهره لا جوهره وهو ما يتحول لمشكلة لدي الكثيرين لكون المظاهر في غالبية الأحيان تكون زائفة خداعة ويجعلنا فريسة وضحايا لنماذج سلبية غير قادرة علي تحمل المسئولية.
ويشير د.ثروت إسحق أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس إلي أن للأهل تبريرات في مسألة الرفض بالتعلل بطريقة التربية داخل مؤسسة الرعاية والتي قد تؤثر علي سلوك الشخص نفسه وتصرفاته لتجعل منه شخصا ساخطا علي الحياة رافضا من هم حوله فتصبح الحياة معه مستحيلة.
والحقيقة أن هذه الصورة مغلوطة وتعد من باب هواجس وأوهام, فكثيرا ما تجد مثل هذه النماذج في أشخاص محيطين بنا دون أن يكونوا قد تربوا في دار رعاية. وبالطبع المشكلة هنا لم تكن في مسألة تنشئته داخل ملجأ من عدمه وإنما المشكلة هي النظر للشكليات الفارغة والرفض من الأساس دون البحث عن الجوهر من قيم ومبادئ وعادات وتقاليد, ولذلك علينا أن نحكم علي الشخص بقيمه ما إذا كانت إيجابية أم سلبية. فإذا كانت إيجابية علينا ألا نذكره بالماضي أو يحتقره لمجرد فترة عايشها من حياته دون ذنب اقترفه أما إذا كانت سلبية فهي بالطبع تدق ناقوس الخطر لكونها تؤثر علي العلاقات بشكل عام ولاسيما عند المواجهات المباشرة بين الأفراد داخل الأسرة باعتبارها الخلية الأولي للمجتمع, وهنا قد يختلف الوضع.
ولهذا الأمر فالأهل لم يكونوا علي حق في مسألة الرفض من ارتباط أبنائهم بمن وضعته الظروف ليحيا كمجني عليه يتحمل أحظاء الغير كمبدأ عام فمن منا بإمكانه أن يختار ماضيه, لا أحد يستطيع اختيار والديه أو ظروفه الاجتماعية التي نشئ فيها وإنما باستطاعتنا هو تغيير الواقع للأفضل.
ويتساءل د.إسحق لماذا يوصم المجتمع هؤلاء ويحكم عليهم بالإعدام دون أن يعطيهم الفرصة لتخطي أزماتهم ومعاناتهم التي عايشونها أثناء فترة طفولتهم؟ أليس يكفي ما فعله الزمن بهؤلاء من حرمانهم وبعدهم عن أسرهم لسنوات وحان الوقت لنأخذ بأيديهم ونرفع عنهم همومهم لمساندتهم ومساعدتهم علي الانخراط داخل المجتمع بصورة طبيعية.
ومن هذا المنطلق ينصح د.غريب عبد السميع أستاذ علم الاجتماع بجامعة حلوان الأهل بمعرفة الشخص نفسه ودراسة ميوله ورغباته فكثيرا من أناس كانوا ذات الظروف ولكنهم صنعوا مستقبل نفخر بهم وكونوا أسرا مستقرة ومن ثم حق هؤلاء علينا أن نتيح لهم الفرصة بأن يصنعوا هم أيضا حياتهم ويعترف بهم المجتمع.
وبالتالي فطلب الأبناء في الارتباط بشخص عايش هذه الظروف لم يكن جرما علي الإطلاق وأنما هو حق ومسئولية في عملية الاختيار, فنجاح الحياة الأسرية هي شركة يتقاسمها طرفان بشرط أن يكون الاختيار موفقا وعلي أساس مبني علي الجوهر بلا رتوش لا بإمكانيات ولا بمظهر, فالحياة تتطلب شخصا علي خلق ومتحمل المسئولية, القادر علي تخطي الصعاب وعراقيل الحياة, فإذا توافرت هذه الإمكانيات ثق أن هذا الإنسان هو بحق الشخص الذي تبحث عنه. فقط أعطيه الفرصة لإنسانية الإنسان أن تصنع نفسها فهي أهم من ماضيه والنظر له بإنسان مجني عليه لا دخل له فيما وضعته الظروف, وبالتالي ألا نحمله نتيجة أخطاء الغير وإنما أعطاؤه الفرصة ليصنع ذاته في عمله وفي تكوين حياة أسرية مستقرة سعيدة.
والأهم من ذلك أن من تربوا في هذه الدور غالبا ما ينشأون شخصيات قادرة علي تحمل الصعاب والمسئوليات ربما أكثر من أولئك الذين نشأوا علي الرفاهية داخل أسرهم.