يبدو أن الأقدار كتبت علي ليبيا أن تكون بمثابةطوق النجاة لعالم متعثر ماليا ومرتبك اقتصاديا سواء قبل الثورة أو بعدها. ليبيا في عهد القذافي اتجهت نحو القارة السمراء وخاصة الدول الواقعة جنوب الصحراء وأغدقت عليها بلا حدود في شكل منح مالية واستثمارات هائلة تخشي الحكومات الأفريقية من سحبها في ظل حالة العداء القائمة حاليا بين المجلس الوطني الانتقالي ودول أفريقيا التي ساندت القذافي حتي اللحظات الأخيرة قبل مغادرته طرابلس. ليبيا الآن تتجه بكل ثقلها غربا وتفتح أبوابها علي مصراعيها للحكومات والمؤسسات والشركات ورجال الأعمال علي ضفتي الأطلنطي وهو الأمر الذي يعتبره العديد من الخبراء الدوليين بمثابةطوق نجاة لأزمة دول اليورو وعجز الموازنة الأمريكية! أمريكا وأوربا أعلنت بلسان واحد استعدادها التام لتأهيل ليبيا وإعادة جاهزيتها من جديد كدولة عصرية. أصول ليبيا في الخارج مع إمكاناتها المهولة في مجالي النفط والغاز إلي جانب ما تتمتع به من كنوز أخري تحتويها وشواطئ تمتد لأكثر من3آلاف كيلو متر لم تمتد لها يد التنمية دفع العالم كله للدخول في أكبر ماراثون للفوز بصفقات وعقود في ليبيا الجديدة بعد مقتل القذافي وإعلان حلف الاطلنطي انتهاء عملياته.
وطني تابعت الملف الليبي وحاورت العديد من السياسيين وخبراء المال والاقتصاد حول مستقبل الاقتصاد الليبي وكيف لمصر أن تستفيد وهي التي دعمت وساندت الثورة الليبية وفتحت أبوابها لأبناء ليبيا الهاربين من عنف ودموية القذافي وميليشياته.
يقول السفيرإبراهيم بن محمد التويجري الأمين العام المساعد للشئون الاقتصادية بجامعة الدول العربية في تصريحات خاصة لـوطني ما إن بدأت أركان النظام العقيد الليبي معمر القذافي تتهاوي بعد أكثر من40عاما من الحكم حتي بدأ الحديث عن تحديات كبيرة تواجه الدولة الليبية الجديدة أهمها إعادة بنائها اقتصاديا, فالأمل كبير في أن تنجع ليبيا في فرض نفسها علي خريطة الاستثمارات في الفترة المقبلة ولكن بشرط عدم حدوث فوضي سياسية في البلاد. فليبيا تتمتع بالكثير من الموارد خصوصا النفط والغاز ولكنها في حاجة إلي التقنية المتطورة والاستثمارات من أجل الاستفادة القصوي منها خاصة إذا علمنا وطبقا لإحصاءات موثقة صادرة عن شركةبريتيش بتروليوم أن لدي ليبيا احتياطيا نفطيا في حدود 46مليار برميل أي نحو 3.4%من الاحتياطي النفطي العالمي المكتشف وبالتالي تحتل المرتبة التاسعة دوليا. في المقابل يبلغ متوسط الإنتاج النفطي الليبي نحو1.6 مليون برميل يوميا بشكل نحو2% من الإنتاج العالمي للنفط والمرتبة الثانية عشر بين أكبر مصدري النفط ولايتناسب حجم الإنتاج النفطي بمستوي الاحتياطي النفطي للبلاد. وليس من المستبعد أن تحصل الشركات النفطية التابعة للدول التي شاركت في إنهاء حكم القذافي علي نصيب الأسد من العقود النفطية الليبية, بينما ستجد الشركات النفطية التابعة للدول التي عارضت فرض عقوبات علي نظام القذافي مثل الصين صعوبة في الحصول علي عقود نفطية علي الأقل في المدي القصير.
ويفتح لنا السفيرإبراهيم بن محمد التويجري خزانة معلوماته فيقول لنا:ليبيا ستتحول خلال السنوات القليلة القادمة لأكبر بوصلة تتجه نحوها كافة دول العالم في ضوء ما تتمتع به من أصول مهولة بالعملات الصعبة تقدر قيمتها بنحو168 مليار دولار وهو ما يعني بلغة أهل المال توافر الثروة المالية لتنفيذ مشروعات من شأنها تعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد الليبي-نقول ذلك بالنظر للأداء غير المقنع للاقتصاد الليبي علي بعض المؤشرات الدولية الحيوية حيث حل في المرتبة رقم100 من بين139 بلدا في تقرير التنافسية الاقتصادية لعام2010-2011 ومصدره المنتدي الاقتصادي العالمي إضافة إلي ذلك- يقول السفيرالتويجري-فإن ليبيا تتمتع بالمساحة الكبيرة نسبيا حيث تقدر مساحتها بنحو1.7 مليون كم, أي المرتبة رقم 17 علي مستوي العالم من حيث الحجم بينما يعتمرها من البشر 6ملايين نسمة فقط يتواجدون بكثافة حول المناطق الساحلية الواقعة شمال البلاد. فضلا عن المناخ فإن المناطق الساحلية تتمتع بمزايا مثل القدرة علي توفير الوظائف سواء في الزراعة أو السياحة…ومما لاشك فيه فإن حكومة الثورة في ليبيا الجديدة تسعي بجدية لأن تنعكس الأصول والثروات بشكل إيجابي علي معيشة المواطنين.
الجدير بالذكر حقا-يقول:السفيرالتويجري-إنه وعلي الرغم من محدودية عدد السكان مقابل ثروات البلاد فقد عاني الاقتصاد الليبي من ظاهرة البطالة في عهد القذافي والتي بلغت30% قبل سنوات ولكن انخفض مستوي البطالة في السنوات القليلة علي خلفية ارتفاع أسعار النفط وهو الأمر الذي منح السلطات في حينه فرصة تعزيز النفقات العامة وبالتالي إيجاد فرص عمل بصرف أموال علي مشروعات ضخمة مثلالنهر العظيم من أجل تحقيق دعاية إعلامية للقذافي دونما وجود حاجة فعلية إلي ذلك. كما يبلغ متوسط دخل الفرد في ليبيا نحو 14ألف دولار أي المرتبة رقم 63 علي مستوي العالم وهو ما يعد رقما غير لافت قياسا بثروات البلاد ومحدودية عدد السكان. وحسبنا أن نذكر في هذا السياق-يقول السفيرالتويجري-أن قطر علي سبيل المثال تحتل المرتبة الأولي عالميا بمتوسط دخل يقارب 89 ألف دولار, علما بأن إجمالي الناتج المحلي الليبي العام الماضي قد ناهز 90مليار دولار وبلغ الإنفاق العام قرابة 40 مليار دولار. والمثير للدهشة حقا أنه مع هذه الوفرة المالية في ظل فوائض البترول الضخمة فإن أغلب البنية التحتية في وضع متر سواء الطرق أو المدارس أو المستشفيات أو الموانئ وغيرها من المنشآت وهو ما يتطلب مئات المليارات في شكل استثمارات لبناء ليبيا العصري الجديدة كما يتمناها حكامها الجدد وشعبها المتطلع للحداثة وكما نتمناها نحن الأشقاء العرب.
نترك السفير:إبراهيم بن محمد التويجري الأمين العام المساعد للشئون الاقتصادية بجامعة الدول العربية ونذهب للسفيرجمال بيومي الأمين العام لاتحاد المستثمرين العرب ليحدثنا هو الآخر بلغة المال والاقتصاد عن ليبيا فيقول لنا: الاستثمارات الأجنبية المباشرة في ليبيا خلال عام2010 أي قبل سقوط القذافي بلغت 3.8 مليار دولار مقارنة بنحو 2.7 مليار دولار في عام2009 وهي استثمارات قليلة في دولة مثل ليبيا بإمكاناتها المالية والنفطية الكبيرة خاصة إذا ما قارناها باستثمارات أجنبية مباشرة في دولة نفطية غربية أخري مثل قطر وبها استثمارات أجنبية تزيد عن5.3 مليار دولار بينما دولة السعودية تزيد الاستثمارات الأجنبية المباشرة فيها عن 28.1 مليار دولار, ولذلك فمن المتوقع أن تشكل ليبيا خلال الفترة القادمة فرصة ذهبية للعديد من المستثمرين والمؤسسات المالية, وقد يكون ذلك من وجهة نظري بداية تجربة رأسمالية يحركها النفط والغاز وقد تحقق أرباحا طائلة. كذلك يمكن لصندوق إدارة الثروات والذي تأسس في ليبيا عام2006 لإدارة عائدات النفط الليبي أن يكون حيويا, كذلك الأمر بالنسبة للمؤسسة الليبية للاستثمار والتي تملك مليارات الدولارات كأموال سائلة وعددا من الحصص في شركات غريبة كبري مثلبيرسون وأوني كريديت كما أنه بإمكان ليبيا الاعتماد علي أرصدتها الضخمة المجمدة في الخارج والتي تقدر بنحو170 مليار دولار, أكثر من نصفها مجمد في الولايات المتحدة وأوربا بينما تتوزع بقيمتها في شتي أنحاء العالم وعلي صناديق الاستثمار.
ويري السفيرجمال بيومي رئيس اتحاد المستثمرين العرب أن ليبيا في عهدها الجديد تحتاج خلال السنوات الخمس القادمة فقط ما لايقل عن 100مليار دولار-لتشييد بنية تحتية متينة تجتذب الاستثمارات سواء الخارجية أو العربية أو الداخلية ذلك أن الحكومة الليبية الجديدة بعد الثورة ورثت اقتصادا متصدعا كان تحت سيطرة حكومية شبه تامة وفي ظل نظام شديد الفساد والقمع ضيع أغلب عائدات النفط الهائلة علي مغامرات القذافي, ومن ثم سيكون علي الحكومة أن تبدأ من نقطة الصفر, والصعوبة الرئيسية ستتمثل في كيفية التعامل مع الإرث الاقتصادي للقذافي الذي أدي إلي تخلف البلاد حيث لم يترك علي سبيل المثال لا الحصر طرقا رئيسية بين مدن كبري. فليبيا أمام تحديات هيكلية, وحيث أن البلاد اعتمدت بشكل شبه مطلق علي النفط فإن تنويع الأنشطة الاقتصادية وتطوير قطاع خاص سيكون أمرا حيويا كما لابد من إجراء إصلاحات أساسية.
ويقترح البيومي في حديثه لـوطني إنشاء مجلس أعلي للعلاقات المصرية الليبية السودانية حيث يعتبر هذه الدول الثلاث والتي يربطها الحوار مع اللغة والدين والتاريخ المشترك بمصالح مشتركة ولن تتحقق أهدافها الاقتصادية إلا بالتنسيق والتعاون المشترك فالسودات كفيلة بتوفير الغذاء لشعوب هذا المثلث بفضل استثمارات ليبية مصرية مشتركة وعمال زراعية مصرية ماهرة. والمشروعات في ليبيا حتي لو كانت بإدارات أجنبية فهي تحتاج لعشرات الآلاف من العمالة الماهرة القادرة علي العمل حتي في أصعب الظروف وهي متوافرة جدا في مصر وأغلبها كان يعمل بالفعل في ليبيا. بالإضافة إلي ماسبق فإن رؤوس الأموال العربية لابد وأن تتحالف لإقامة مشروعات ضخمة في ليبيا تعود بالنفع والفائدة علي الاقتصاد الليبي وتدر أرباحا كبيرة علي أصحابها وتسهم بالتالي في تثبيت مناخ الاستقرار والسلام في البلاد وتستوعب فرص عمالة كبيرة في مصر مما يخفف من حدة البطالة فيها والتي وصلت إلي 11.5%.
د.رشا عبده الخبير الاقتصادي يري أن المستقبل الاقتصادي في ليبيا بعد مرحلة القذافي أفضل بكثير مما كان عليه من قبل ذلك أن ليبيا القليلة السكان ذات الإمكانات النفطية والغازية العالية جدا لم تتمتع حتي الآن بثمار هذه الخيرات, ومن ثم فهي تستحق أن تعيش حياة جديدة فكرا ومعمارا واقتصادا وسياسة.
ومن وجهة نظري أن تعاطف أمريكا ودول الغرب مع الشعب الليبي ضد القذافي وحاشيته الفاسدة ثم المساندة العسكرية الكبيرة خلف الأطلنطي, كل ذلك يعني من وجهة نظري أن الغرب متشوق بل ومتعطش ليجني ثمار ليبيا الجديدة بعد أن حرمهم القذافي منها, وهو ما نلمسه حاليا من تسارع المؤسسات الغربية لطرق أبواب ليبيا بكثافة غير مسبوقة لبحث عدد من المشروعات الضخمة والعملاقة في مختلف المجالات, ولذا فأنني أدعو كافة شركات البناء والتشييد في مصر لعمل المتميز في مجال البناء والتشييد مع تقديم عمالة مصرية تحتاجها ليبيا بالفعل ليس فقط في مجال المعمار بل وفي مجالات أخري عديدة, بل أن ليبيا في حاجة ملحة لنحو 80ألف مصري علي الأقل علي المدي القصير يمثلون مجالات التشييد والبناء, والطب, والهندسة, والصيدلة, والتدريس, والتمريض….إن ليبيا بالفعل خلال السنوات الخمس القادمة هي بكل المقاييس بارقة الأمل للأزمة الاقتصادية في مصر وانعكاساتها علي معدل البطالة, ولذلك فإنني من أشد المؤيدين لحماسة وزير القوي العاملة د.أحمد البرعي الذي شارع منذ تحرير ليبيا لضمان توفير فرص عمل للشباب المصري مدرب ومؤهل من قبل الوزارة حتي يكون ممثلا مشرفا لمصر ويحظي كذلك باحترام الدولة المضيفة.
وردا علي تساؤلات لـوطني حول إلغاء الدين الليبي الذي كان متداولا في عهد القذافي وإصدار عملة جديدة…قال د.رشاد عبده:حتي لو كان ذلك الأمر ملحا بحكم العهد الجديد الخالي من القذافي إلا أن أمر فني في المقام الأول يتطلب تدخل البنك المركزي الليبي.وطبقا لمعلوماتي فإن البنك المركزي الليبي يتجه بالفعل حاليا لطباعة عملة جديدة وبكميات كافية لاتحمل صورة القذافي, وقد وقع الاختيار علي إيطاليا للقيام بهذه المهمة نظرا للروابط القوية التي تربط البلدين ولتمتع إيطاليا بإمكانات تقنية عالية في هذا المضمار. والأهم من الدينار الليبي بصورة القذافي أو بدونها حاليا هو ضرورة أن يعاد النظر في قيمة الدينار الليبي مستقبلا بعد أن ظل لفترة طويلة خاضعا لسعر صرف تحدده قرارات إدارية من الحكومة وليس بفعل قيمته في السوق, ولكن أستبعد أن يتم تعويم العملة الليبية بسرعة لأن المناخ حاليا غير مواتيه, كما أن الحذر يجب أن يكون ملازما في تقييم الدينار, وإن كنت أري أن الضرورة تحتم ربط الدينار بسلة عملات بدلا من الارتباط بالدولار وحده!!.