نظرا لحقيقة أن القذافي مازال طليقا وأن مستقبلا غير معروف ينتظر الشعب الليبي, يتردد المرء في إصدار أحكام جذرية بشأن التدخل الأخير لإدارة أوباما. فمما لا شك فيه أن إسقاط الحكم الديكتاتوري للقذافي الذي دام 42 عاما يمثل انتصارا كبيرا للانتفاضات العربية المستمرة, حيث يتم حاليا تمزيق الخريطة السياسية للشرق الأوسط بعد أربعة عقود من الحكم الديكتاتوري الخانق الذي جثم علي صدور الليبيين. ومن بين العائلات الحاكمة المعروفة في المنطقة, سقطت أربع حتي الآن. وقد تتحلي بعض من تلك التي بقيت بما يكفي من الحكمة والحصافة لتلبي المطالب الشعبية. أما تلك التي ستمتنع عن تلبيتها, فإنها ستسقط في نهاية المطاف علي الأرجح.
والواقع أن ليبيا لم تمثل عرضا جانبيا, وإنما جزء أساسي ومهم من الثورات الإقليمية. فلو قام القذافي بالهجوم علي بنغازي وسحق الثوار ونفذ وعيده وقتل كل خصم للنظام, لبعث ذلك برسالة فظيعة لآخرين في المنطقة. وبدلا من ذلك, فإن سقوطه يشجع الحكام والمحكومين علي حد سواء علي البحث عن عمليات انتقالية سلمية, وبخاصة في سوريا – كما يأمل المرء – حيث سيزداد الضغط علي الأسد من دون شك. والواقع أن حتي بعض دول الخليج العربي المحافظة دعمت الثوار في ليبيا, وقد أخذت اليوم ترمي بثقلها دعما للجهود المعارضة للأسد.
وقد شكل هذا انتصارا كبيرا للحلف الأطلنطي; إذ رغم كل نقاط ضعفه الواضحة, إلا أن ##الناتو## أنقذ فعليا الشعب الليبي, وحافظ علي زخم ##الربيع العربي## حيا. كما دحض فكرة أخذت تنتشر علي نحو متزايد ومؤداها أن ديمقراطيات العالم العظيمة توجد اليوم في مرحلة تراجع نهائي, والحال أنها مازالت قوية وقادرة علي التحرك بشكل جماعي عندما تكون مصالحها ومثلها مهددة. وقد قامت بإسقاط القذافي رغم أن يدا واحدة علي الأقل كانت مقيدة خلف ظهرها. وتخيلوا فقط لو أنها جاءت مدعومة بالقوة الكاملة للولايات المتحدة.
للأسف لم تأت, ولكن تدمير نظام القذافي مازال يمثل إنجازا عظيما لإدارة أوباما وللرئيس شخصيا. ومن العار أن بعض المسئولين بدأوا يقللون من دور الولايات المتحدة, ويحاولون علي نحو سخيف تحويل هفوة ##القيادة من الخلف## إلي نوع من ##عقيدة أوباما##.ولكن الحقيقة هي أن الولايات المتحدة لم تقد من الخلف.
فحتي الآن, يمكن القول إن أهم قرار اتخذه أي زعيم عالمي في هذا الشأن هو عندما قرر أوباما أن العالم لا يمكنه أن يقف موقف المتفرج ويسمح بتعرض سكان بنغازي للذبح. وهذا الأمر هو الذي قلب مجري الأشياء. فالجميع يشيد بالرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني, لأنهما كانا متقدمين علي أوباما بخصوص رؤية الحاجة إلي عمل عسكري (تماما مثلما كانت مارجريت تاتشر متقدمة علي جورج بوش الأب في رؤية الحاجة إلي القيام بعمل ضد صدام حسين في 1990). غير أن الولايات المتحدة فقط هي التي كانت تمتلك الأسلحة لفتح طريق آمن للحرب الجوية والبرية ضد قوات القذافي; ذلك أن فرنسا وبريطانيا لوحديهما ما كانتا تستطيعان القيام بالمهمة من دون خطر غير مقبول لقواتهما, التي كانت قليلة أصلا. وقد كانت طائرات ##إيه 10? و##إيه سي 130? أساسية وحاسمة في قصف مدرعات القذافي خلال الأيام الأولي. وفي الأيام الأخيرة, سمحت عمليات المراقبة الأمريكية للثوار بتحديد مواقع قوات القذافي في طرابلس ومن حولها, حيث كانت طائرات البريداتور الأميركية من دون طيار تحلق في الأجواء طيلة أشهر القتال.
كما اتبع الرئيس ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون جهودا دبلوماسية ناجحة, حيث لم يفلحا في حشد دعم أوروبي فحسب, وإنما عربي أيضا, الشيء الذي أرغم روسيا والصين علي الإذعان في الأخير. وكانت الكلفة قرارا للأمم المتحدة غير كاف, ولكنه كان في نهاية المطاف يستحق العناء ربما. وقد كان التوافق علي مثل هذا الدعم الدولي الواسع, والعربي بالخصوص, مساعدا بلا شك; غير أن الولايات المتحدة فقط كان يمكنها تحقيق هذا. وبالتالي, فمن المذهل معرفة إلي أي مدي مازال العالم في حاجة إلي الولايات المتحدة في ما يفترض أنه عالم ##ما بعد الولايات المتحدة##.
إن التدخلات الأمريكية, الكبيرة منها والصغيرة, ليست جميلة. والرؤساء الأمريكيون بطيئون دائما تقريبا في رؤية الحاجة إلي التحرك لأنهم يخافون علي مستقبلهم السياسي ويشرعون في البحث عن مخرج حالما يقررون التحرك. غير أنه يتعين علي المنتقدين ##الجمهوريين##, وبخاصة أولئك الذين عملوا في سنوات ريجان وبوش, أن ينظروا إلي المرآة, عساهم يتذكروا التدخل في لبنان في 1982, وعدم التحرك المتعمد في الأيام الأولي من مذبحة البلقان في 1992, ناهيك عن أفغانستان والعراق. فالولايات المتحدة دائما تقريبا لا تقوم بهذه الأشياء علي نحو جيد; ولكنها أحيانا تنجح مع ذلك.
أو علي الأقل هذا ما يأمله المرء. غير أن الكثير من الأشياء قد تسوء في بلد ظل محكوما طيلة 40 عاما من قبل مستبد مجنون. واليوم, يمكن القول إن إدارة أوباما توجد حيث كانت إدارة بوش في نوفمبر 2001 في أفغانستان, وفي أبريل 2003 في العراق. فقد سقط الديكتاتور, ولكن الأخطار تتزايد!
تلك التجارب تعلمنا أن الفشل في إدارة العملية الانتقالية يمكن أن يحول النجاح إلي كارثة بسرعة. وعلي ما يفترض, فإن الرئيس ومستشاريه يدركون هذا الأمر. غير أن إغراء إعلان النصر والهرب من ليبيا بأسرع وقت ممكن سيكون كبيرا جدا, وعلي أوباما أن يقاومه!
واشنطن بوست