تساءل البعض عن الحملة الدولية لإنقاذ المسيحيين في العراق, لماذا تقتصر علي المسيحيين فقط دون سائر المكونات الأخري للشعب العراقي؟ ألا يستحق الملف العراقي أكثر من لجنة تحقيق دولية للوصول إلي حقيقة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية التي حدثت منذ عام 2003 وحتي الآن؟ وما الضمانات لنجاح مثل هذه الحملة؟ وهل ستوافق الولايات المتحدة علي مثل هذه الحملة؟
هذه هي أهم الأسئلة التي واجهتها بالنسبة لهذه الحملة,ويهمني توضيح عدد من النقاط:
أولا:هذه الحملة رغم أن عنوانها, ##المسيحيون## إلا أنها تشمل كل الأقليات الصغيرة الأخري,أو بمعني أوضح الأقليات المعرضة للفناء والتلاشي في العراق. أما لماذا المسيحيون عنوان لهذه الحملة ,لأنهم أكبر هذه الأقليات المعرضة للفناء, ولأنهم معروفون عند المجتمع الدولي أكثر وتداولت أخبارهم أكثر من غيرهم في وسائل الإعلام العالمية,ولأن هذا الملف يتداخل فيه السياسي بالديني والمحلي بالإقليمي بالدولي, ولأن هذه الحالة واضحة المعالم وقابلية التحقيق فيها ممكنة أكثر من غيرها, فهي حالة مثالية لتبدأ بها العدالة الدولية طريقها إلي العراق.
ثانيا:تغيرت الصورة في العراق الآن, فالأكراد الذين كانوا يعدون أقلية مضطهدة هم مكون رئيسي من مكونات السلطة, والشيعة كذلك, أي أن الأطراف الثلاثة الكبيرة(الشيعة والسنة والأكراد) لا ينطبق عليها لفظ أقليات الآن, فهي تقتسم السلطة وتتصارع عليها وتحكم وتتحكم, وهي مسئولة بشكل مباشر وغير مباشر عن ما حدث للأقليات الصغيرة في العراق.
ثالثا:في عهد نظام البعث سعت المنظمات الشيعية والكردية لطلب النجدة والعون الدولي والتوسل للولايات المتحدة والدول الغربية بتخليصهم من صدام, والآن هذه الأسطراف العراقية الكبيرة لا تطلب العدالة ولا تسعي إليها بل تعرقلها, ببساطة تطلب العدالة من ماذا وهي الحاكمة والمسيطرة والمتورطة, الذين يطلبون العدالة الآن هم الأقليات الصغيرة في العراق ونحن نتجاوب معهم ونساعدهم في مسعاهم, لأنهم طرف معرض للفناء.كما تجاوبنا مع الشيعة والأكراد وساندناهم لسنوات في مسعاهم الدولي أيضا,جاء الوقت لنساند المسيحيين وغيرهم وهم في أمس الحاجة للعدالة الدولية.
الحكومة العراقية بصفتها الرسمية تستطيع أن تطلب من مجلس الأمن مباشرة إرسال لجنة تحقيق دولية ولكنها لن تفعل,كما أنها تستطيع أيضا مخاطبة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ولكنها لن تفعل, علاوة علي أنها لم تقم بإجراء تحقيق محلي عادل ومحترم يهدف إلي تحقيق العدالة لهذه الأقليات الصغيرة.
نحن إذن نحقق رغبة الأطراف الضعيفة في طلب العدالة الدولية والتي تسعي إليها وتناشد المجتمع الدولي لتحقيقها, ولكن الأطراف الأخري غير راغبة فيها من الأساس.
رابعا:العنف المتبادل بين الطوائف الكبيرة في العراق هو صراع علي السلطة مثل الكثير من الحروب الأهلية في العالم, ومن ثم فإن الطوائف الكبيرة الثلاث في العراق متورطة فيه ومدانة وتتحمل المسئولية عن وقوع هذه الضحايا, أما العنف الموجه ضد الأقليات الصغيرة فهو غير متبادل, هم ضحايا أبرياء لهذه الصراع علي السلطة, والطوائف الكبيرة مسلحة ولديها ميليشيات, أما الأقليات الصغيرة فغير مسلحة وليست لديها ميليشيات ولا ترد العنف بالعنف,علاوة علي أن الطوائف الكبيرة تستند إلي حماية ومساعدة دول إقليمية, فارتباط الشيعة بإيران غير خاف علي أحد تسليحا وتدريبا ومساندة, وارتباط السنة بالسعودية والدول العربية السنية أيضا معروف, أما الأكراد فهم أمة وقومية لديها مقومات الأمة وتستحق ذلك ونؤيدها في إعلان هويتها وتكوين دولتها القومية عبر تجميع الكتل الكردية في تركيا والعراق وإيران وسورية, ومن ثم فلهم ميليشياتهم النظامية التي تقترب من مفهوم الجيش الوطني, المسيحيون والأقليات الصغيرة الأخري ليست لديهم دول تقف بجانبهم وتساندهم وهم أحوج ما يكون إلي العدالة الدولية.
خامسا:هناك أيضا فرق بين العدالة الممكنة والعدالة المستحيلة, والعدالة المثالية هي عدالة مستحيلة لأنه لا يمكن تحقيق العدل الكامل علي الأرض , وأغلب مما ينادون بها يفعلون ذلك من أجل إجهاض العدالة والمراوغة والهروب من المشاركة في الأعمال الإنسانية. وفي المنطقة العربية علي وجه الخصوص كلما تحدث أحد عن العدالة والتدخل الإنساني في الكثير من قضايا المنطقة والعالم يشهرون في وجهك قضية فلسطين, رغم أن ضحايا العنف والإرهاب والاستبداد في جنوب السودان ودارفور والعراق والجزائر يبلغ عشرات المرات أعداد من قتلوا في كافة الصراعات العربية – الإسرائيلية مجتمعة منذ قيام دولة إسرائيل وحتي الآن.
إذن التحجج بقضية فلسطين هو عمل غير إنساني وغير أخلاقي, فماذا يضير البعض بأن تتحقق العدالة في جنوب السودان أو في دارفور أو للمسيحيين في العراق؟,أليس تحقيق العدالة في مكان ما في الشرق الأوسط يساعد علي تحقيقها في مكان آخر؟!
سادسا: البعض يتساءل عن نتائج هذه الحملة وهل ستحقق نتائج بقدر الجهد المبذول فيها في ظل معارضة الولايات المتحدة لأي لجان تحقيق دولية خاصة بالعراق ؟
والجواب هذه هي المبادرة الأولي لإرسال لجنة تحقيق دولية ولا نعرف ما موقف الولايات المتحدة عند تقديمها, ولكن ما أعرفه جيدا أن منظمات أمريكية تشاركنا في هذه الحملة الدولية, كما أن اللجنة الأمريكية للحريات الدينية الموفدة من الكونجرس والتي زارت العراق مؤخرا أصدرت تقريرها يوم 16 ديسمبر 2008 عن الأوضاع التي يتعرض لها المسيحيون في العراق, وجاء في التقرير أن هذه الأقليات الصغيرة تتعرض لتهديد خطير, وأوصت اللجنة , التي تضم أعضاء من الحزبين الجمهوري والديموقراطي, بتصنيف العراق علي أنه ## بلد يثير قلقا بشكل خاص## نتيجة لما وصفته بتسامح الحكومة العراقية إزاء الانتهاكات البالغة للحريات الدينية. وقالت فليس جير رئيسة اللجنة ## إن عدم وجود إجراء حكومي عراقي فعال لحماية مثل هذه الأقليات من الانتهاكات جعل العراق بين المناطق الأكثر خطورة علي وجه الأرض بالنسبة للأقليات الدينية##.
وأفادت اللجنة أن الأقليات الدينية وجدت نفسها أيضا محاصرة وسط صراع بين حكومة كردستان العراق وبغداد من أجل السيطرة علي المناطق الشمالية التي تتركز فيها هذه الأقليات.
إذن هناك العديد من المنظمات الأمريكية التي تساند العدالة للمسيحيين في العراق, كما أن لجان من الكونجرس تؤيدها, والكثير من المؤسسات المسيحية في أمريكا تؤيدها ,وكثير من منابر الرأي العام تؤيدها, ونأمل أن تضغط كل هذه المؤسسات علي الإدارة الأمريكية كي لا تعرقل تحقيق العدالة للمسيحيين في العراق.
في نفس الشهر ذكرت الأمم المتحدة أنها تشعر بقلق خاص إزاء جرائم القتل التي تستهدف الأقليات في العراق مثل المسيحيين,وطالب الفاتيكان الحكومة العراقية بتوفير حماية للمسيحيين في العراق.
نحن إزاء حالة مجمع عليها بأنها تمثل خطرا شديدا علي فناء أقليات أصيلة, ودور المجتمع المدني هو مساعدة هذه الأقليات للوصول للعدالة الدولية, فالمجتمع المدني يقوم بوظيفة المدعي العام أمام العدالة الدولية عندما تتقاعس الحكومات, كما أنه مصدر للمسئولية الدولية أمام مؤسسات العدالة.
[email protected]