الأمة التي بلا ذاكرة هي أمة ليس لها مستقبل,من الذاكرة يمكن أن نسترجع العبرة والحكمة والدرس والخبرة لتكون لنا كومضات فلاش الكاميرا لتضئ مستقبلنا ونحكم من خلالها علي تصرفاتنا قبل أن نخطو خطوات غير محسوبة الأبعاد.هذا ما وضعته مكتبة الإسكندرية نصب أعينها منذ إنشائها.فالمعرفة لم تعد حكرا علي أحد وكذلك التاريخ لن يوضع في صناديق في غرف مظلمة رطبة, مرة أخري فالكل يجب أن يعرف ويري كيف كان الأجداد يعيشون وأي الفنون يتذوقون,ولهذا عملت مكتبة الإسكندرية ومن خلال مشروعها الإلكتروني الرائع والمعروف بذاكرة مصر المعاصرة,ذلك المشروع البحثي العلمي الذي يهدف إلي ترقيم كل المواد التي ترتبط بتاريخ مصر المعاصر,من صور ووثائق وعملات وأفلام تسجيلية وغيرها,لتعد بذلك أكبر بوابة إلكترونية تضم بين صفحاتها تاريخ مصر في قرنين,بدءا من عهد والي مصر محمد علي باشا 1805 وحتي نهاية عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات في 6أكتوبر 1981.وتؤرخ الذاكرة لتاريخ مصر من مختلف النواحي سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا,ومن أهم ما يميزها هو الحياد وتسليط الضوء علي جوانب مجهولة في تاريخ الشعب المصري.
السبب في كتابة هذا الموضوع ليس إعادة تسجيل مشروع ذاكرة مصر المعاصرة ولكن السبب الرئيسي هو أن هذا المشروع كشف عن اقتنائه لما يزيد علي 60 صورة نادرة لمدينة القاهرة تعود إلي الفترة ما بين عامي1860 و1901 وهي مجموعة خاصة بالمصورفيليكس بونفيسFelix Bonfiles ,وهو مصور وكاتب فرنسي نشط في بلاد الشرق,التقطت عدسته مجموعة صور نادرة تعتبر من أوائل الصور الفوتوغرافية لكل من لبنان ومصر وفلسطين وسورية واليونان واسطنبول,وقد جمع هذه الصور في ألبوم قام بنشره عام1872 تحت عنوان الآثار المعماريةArchitecture Antique ,والذي أصبح من أهم الأدلة السياحية لزوار الشرق من الأوربيين.
المصور فيليكس بونفيس هو أحد الفرنسيين الذين عشقوا مصر وكل ما فيها,ترابها ونيلها وآثارها الممتدة عبر ربوعها وتفاعل مع ناسها معبرا عن ذلك الحب بالعديد من الصور الفوتوغرافية البانورامية – تقنيات متعددة تخلق زاوية رؤية واسعة,تتكون هذه الرؤية البانورامية من ثلاث صور فوتوغرافية جوية أوصلت معا كي تقدم صورة أكبر مما يمكن الحصول عليه من صورة مفردة-التي أصبحت أحاديث الناس في أوربا وكثير من دول العالم لسنوات طويلة.
ولد فيليكس في الثامن من مارس عام1831 في جنوب فرنسا,وكان في بداية حياته يعمل في صناعة تجليد الكتب,ولأنه كان جنديا في الجيش الفرنسي سافر فيما بين عام1861 وعام1864 إلي لبنان والتي أفتتن بجمال الطبيعة الساحرة بها,ولكنه وبعد أداء الخدمة العسكرية عاد للعمل في جنوب فرنسا ولكن هذه المرة ليس كمجلد للكتب ولكن كمصور محترف حتي استطاع في عام1865 أن يفتتح معملا للتصوير في أليس Ales جنوب فرنسا,في هذه الفترة أنجب فيليكس ابنه أدريان الذي ولد عام1860 بمشاكل صحية في الجهاز التنفسي فنصحه الأطباء بالذهاب والعيش في منطقة جافة,وقرر هو وزوجته ليديا الانتقال والعيش بصفة مستمرة في لبنان التي تذكر جمالها وطبيعة جوها,فانتقلا إلي بيروت وافتتحوا استوديو التصوير الخاص بها والمعروف باسم بيت بونفيسMaison Bonfilsوذلك في عام1867 والذي اعتبر من أوائل وأشهر الاستوديوهات التجارية في ذلك الوقت.
خلال الأربع سنوات التالية استطاع فيليكس أن يصدر مجموعات غير عادية وصلت إلي أكثر من15ألف صورة للعديد من المناظر الطبيعية والآثار العريقة وبورتريهات الأشخاص المحليين في كل من اليونان وسورية وفلسطين ومصر,مستخدما في ذلك نترات الفضة علي الزجاجتكنولوجيا التصوير في ذلك الوقتكما كان لزوجته ليديا دور فعال في تصوير تلك الموضوعات المتعلقة بالمرأة,حيث كانت كل دول الشرق في ذلك الوقت ترفض أن تظهر السيدات أمام الرجال الغرباء.ومع مرور الوقت أصبح ليفيلكس وزوجته شهرة كبيرة في هذا المجال حتي أنهما استطاعا أن يتوسعا في أعمالهما وبدءا في إنشاء فروع أخريلبيت بونفيسفي كل من القدس وبعلبك والإسكندرية والقاهرة.
وفي عام 1871 قدم فيليكس مجموعة من أعماله لجمعية المصورين الفرنسيين لينتقدوا أعماله ونجح في إظهار براعته في فن التصوير,وفي العام التالي أصدر ألبومه المتعلق بالآثار المعمارية والذي نشرته له دار نشر دوشيرDucher press في باريس,ومع حلول عام1876 عاد إليأليسفي جنوب فرنسا بثروته الهائلة من الصور التي التقطها في الشرق الأوسط وأصدر سلسلة من الأعمال والألبومات حملت عنوان تذكارات من الشرقSouvenirs d##Orient وكان يتم بيعها عند الطلب من الوكلاء في كل من فرنسا وإنجلترا وألمانيا والقدس وخاصة بعد أن بدأت بعض الشركات السياحية في تنظيم بعض الرحلات للشرق الأوسط.
وفي كتابهمصر والنوبة كتب فيليكس في مقدمته لكل من منعته الظروف من السفر نتيجة المرض أو قلة التمويل أو بعض الظروف الصعبة,لديهم الإمكانية الآن أن يذهبوا إلي تلك الأراضي التي خاطر آخرون بالوصول إليها وليتمتعوا بها بقليل من التكاليف وبقليل من المجهودوفي عام1880 عاد وافتتح معملا لإعادة طبع أعماله فيأليسوظل هناك حتي انتقل عن عالمنا في سنة1885 تاركا لنا ثروة هائلة من التاريخ المصور الذي يحمل في طياته الجمال والقيم الوثائقية التي تؤرخ بكل دقة وحماسة لعادات وتقاليد الشعوب التي زارها مما أهله أن يفوز بجائزة التصوير في معرض باريس سنة1878 وجائزة أخري في معرض بروكسل سنة1883.
أما ابنه أدريان وفي سن السابعة عشر قرر أن يعمل عملا آخر غير التصوير وبدأ في بيروت بإنشاء فندق وكانت ليديا هي التي تدير أعمال الأسرة وقررت تعيين مصورين آخرين لأن الأعمال كانت تكبر باستمرار وكان هؤلاء أكثر حرفية في تقنياتهم ولكنهم ليسوا ذوي موهبة بصرية مثلما كان فيليكس,حتي أرغمت علي ترك البلاد في الحرب العالمية الأولي.
وتتضمن تلك الصور النادرة التي كشف عنها مشروع ذاكرة مصر المعاصرة العديد من الأماكن التي زارها فيليكس في مصر ومنها مدرسة السلطان حسن بميدان القلعة,وكوبري قصر النيل ومناظر عامة لمدينة القاهرة أخذت من فوق جبل المقطم,وقلعة صلاح الدين,وقصر محمد علي في شبرا,وحلقات الدرس بالجامع الأزهر,ومدرسة المنصور قلاوون بشارع المعز,ومسجد البردي,والقنصلية الفرنسية في القاهرة,والقناطر الخيرية,وحديقة الأزبكية,ومدرسة السلطان برقوق بشارع المعز,وقصر الجزيرة(فندق ماريوت حاليا) وفندق إنجلترا Hotel d##Angleterre ومدرسة قايتباي بصحراء المماليك,وجامع المؤيد بجوار باب زويلة,ومسجد عمرو بمصر القديمة,وجامع الحاكم بأمر الله بشارع المعز,وجامع محمد علي بالقلعة,وجبل المقطم,وسوق السجاد وسوق النحاس بخان الخليلي,ومتحف الفن الإسلامي(دار الآثار العربية سابقا) وشارع المعز بمنطقة الحسين,ومقابر الخلفاء بمنطقة الخليفة,وميدان الأوبرا سابقا,ولكن أكثره روعة وجمال سوق السجاد وسوق النحاس بخان الخليلي والتي تكاد أن تختفي هذه الأيام بذلك الشكل التاريخي الرائع وكذلك القناطر الخيرية التي تغيرت بل واختفت جميع معالمها الآن,والصورة الأكثر جمالا هي تلك الخاصة بأبو الهول وهو مدفون تحت الرمال في بدايات القرن الماضي وكيف كانت تلك الرمال سبب في انتشار الخرافات حوله في تلك الأيام.ومن تلك الأماكن التي زارها منطقة شجرة مريم الموجودة في المطرية والتي تعتبر أحد المعالم الأساسية في رحلة العائلة المقدسة إلي مصر وكانت سببا رئيسا في جذب انتباه فيليكس لهذه المنطقة.