كان طبيعيا أن تمر الذكري الثلاثون للمعاهدة المصرية – الإسرائيلية, وكأن الحدث مجرد حدث عادي, في حين أنه مثل تطورا غير الخريطة السياسية للشرق الأوسط بشكل نهائي. لم يشهد الشرق الأوسط حدثا بهذا الحجم طوال ما يزيد علي ربع قرن عندما اتخذ الرئيس جورج بوش الابن قراره بغزو العراق في العام 2003 وإسقاط النظام فيه مغيرا طبيعة هذا البلد الذي كان بين مؤسسي جامعة الدول العربية, فضلا عن مشاركته في الحروب العربية – الإسرائيلية كلها منذ العام 1948 حتي العام .1973 ولكن ما العمل بعدما بقيت المعاهدة اتفاقا محصورا بين مصر وإسرائيل وظل السلام سلاما باردا, في وقت ليس ما يدل علي أن إسرائيل راغبة في سلام شامل, مع الفلسطينيين خصوصا؟
إذا كانت معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية الموقعة في السادس والعشرين من مارس 1979 تظهر شيئا, فإنها تظهر كم أن العرب بائسون بعدما أثبتوا عجزهم عن البناء علي ما توصل إليه أكبر بلد عربي مع إسرائيل. إنها إسرائيل التي كانت ولا تزال ترفض السلام وتسعي إلي التملص منه بأي شكل من الأشكال. ولعل أخطر ما في ظاهرة البؤس العربي أنها تزداد مع الوقت. الدليل علي ذلك, أنه صار هناك من يعتبر حرب صيف العام 2006 التي أعادت لبنان ثلاثين عاما إلي خلف انتصارا. كما هناك من يعتبر حرب غزة الأخيرة التي مارست فيها إسرائيل وحشيتها انتصارا آخر يمكن البناء عليه من أجل ترسيخ حال التخلف في المنطقة وجعلها تشمل أكبر عدد ممكن من المواطنين العرب علي أوسع مساحة جغرافية ممكنة وفي أكبر عدد من البلدان.
يمكن الاعتراض علي ذهاب مصر – أنور السادات بمفردها إلي السلام مع إسرائيل. هناك ألف سبب وسبب لانتقاد خطوة الرئيس المصري الراحل الذي فرض أمرا واقعا علي الآخرين, بما في ذلك علي الذين دعموه في حرب أكتوبر 1973 ولم يترددوا في الذهاب بعيدا جدا في ذلك. والحديث هنا ليس عن الدول العربية فقط, بل يشمل أيضا دولا أفريقية قطعت علاقاتها بإسرائيل ووقفت مع مصر, خصوصا والعرب عموما. تجاهل السادات كليا المسئولية التاريخية لمصر عن هزيمة العام .1967 تجاهل خصوصا أن مصر جرت الأردن إلي حرب خاسرة سلفا وأن القيادة فيها وقتذاك تتحمل مسئولية خسارة الضفة الغربية والقدس الشرقية. كانت هناك تعهدات واضحة وجلية من جمال عبدالناصر, بعد الهزيمة, بأنه لا يمكن أن يقدم علي أية خطوة في اتجاه السلام من دون استشارة الأردن ممثلا بالملك حسين, رحمه الله. وجاء السادات ليضرب هذه التعهدات بعرض الحائط وكانت الخطوة الوحيدة ذات المعني التي قام بها محاولته الفاشلة لإقناع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بالذهاب معه إلي القدس قبل توجهه إليها لإلقاء خطابه أمام الكنيست في نوفمبر من العام .1977
يمكن الخروج بأحكام قاسية في حق السادات, خصوصا في حال كان علي المرء تجاهل الظروف الداخلية التي كانت تعاني منها مصر في السنة 1977 وحال الغليان الداخلي التي بلغت ذروتها في يناير من تلك السنة. كانت حال الغليان تعبيرا عن أزمة اقتصادية عميقة تهدد بانفجار واسع في وقت كانت مصر محرومة من دخل قناة السويس ومن البترول والغاز اللذين في سيناء.
ولكن ما لا يمكن تجاهله في الوقت ذاته أن ردود الفعل العربية علي زيارة السادات للقدس, ثم توقيع اتفاقي كامب ديفيد في العام 1978 تمهيدا لتوقيع معاهدة السلام في السنة التالية, زادت الوضع سوءا. كانت ردود الفعل التي فرضها البعثان السوري والعراقي علي العرب كارثة حقيقية علي العرب عموما. وبدلا من التعاطي علي نحو منطقي مع مصر, أي التعاطي مع الواقع, هرب البعثان في اتجاه عزل مصر. ماذا نفع التصعيد؟ لم تمض سنتان علي معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية إلا وكان العراق يستنجد بمصر, عبر سلطنة عمان, من أجل الحصول علي أسلحة وذخائر كي يستطيع متابعة الحرب مع إيران. أما سورية فكانت منهمكة في الغرق في الرمال المتحركة اللبنانية أكثر فأكثر لتأكيد الوهم الذي تؤمن به والمتمثل في أنها قوة إقليمية يجب أن يحسب لها حساب … وأن الفلسطينيين في جيبها!
لم تمض سوي ثماني سنوات علي المعاهدة حتي انعقدت قمة عمان في العام .1987 في تلك القمة, سار العرب, بمن فيهم سورية, علي خطي الأردن وقرروا إعادة العلاقات مع مصر وإعادة جامعة الدول العربية إلي القاهرة, أي إلي مكانها الطبيعي. كان الأردن سبق الجميع في التصالح مع الواقع وأعاد العلاقات مع مصر في العام .1985 احتاج العرب إلي ثماني سنوات كي يدركوا أن السادات أقدم علي خطوة استثنائية, بل علي مغامرة, وأن عليهم التكيف معها, أيا كان رأيهم في ما فعله الرجل.
بعد ثلاثة عقود علي توقيع المعاهدة المصرية – الإسرائيلية, ليس أسهل من لعن السادات الذي استعاد كل شبر من الأرض المصرية المحتلة. في الإمكان أيضا لعن الذين قاوموا السادات لأسباب لا علاقة لها من بعيد أو قريب بالمصلحة العربية. هؤلاء قاوموا السادات عن جهل أو انتهازية. العراقي الذي اسمه صدام حسين, أو أحمد حسن البكر, كان جاهلا. صدام كان وقتذاك الحاكم الفعلي في العراق, في حين كان البكر مجرد واجهة. السوري الذي كان اسمه حافظ الأسد كان يفكر في كيفية الاستفادة من الفراغ الذي سيخلفه الخروج المصري من المعادلة العربية لوضع اليد علي لبنان والفلسطينيين. كان السوري حاذقا. منع الفلسطيني من الاستفادة من المعاهدة المصرية – الإسرائيلية. كل ما في الأمر أن العرب لم يفهموا شيئا من الذي حصل بعد ذهاب السادات إلي القدس ومن أهمية الحدث. ما فعلوه كان التصرف بما يخدم إسرائيل. بما يخدم سياسة لا هم لها سوي مقاومة السلام لا أكثر ولا أقل… إنه السلام الذي ترفضه إسرائيل وتحاربه بجوارحها كلها. هل من دليل علي مدي رفض إسرائيل للسلام أكثر ما نشهده اليوم. مجتمع بكامله يجنح إلي التطرف. معه تجنح المنطقة كلها إلي مزيد من التطرف. هل أنقذ السادات مصر من التطرف, أم أن كل ما فعله كان تفادي الانفجار الكبير في العام 1977؟ التاريخ وحده سيحكم علي الرجل. الأكيد أن التاريخ سيكون أكثر قساوة مع العرب الذين تعاطوا مع مصر بالطريقة التي اعتمدت في أعقاب معاهدة السلام مع إسرائيل!
كاتب لبناني مقيم بلندن