إنها موهبة يعرفها قراء الفرنسية ولا يعرفها قراء العربية ولو عرفها القراء فلن يتعرفوا علي أدبها وفكرها…هكذا قال عنها عميد الأدب العربي طه حسين عند نقده لروايات قوت القلوب الدمرداشيةالتي ظهرت أعمالها بعد سن الخامسة والأربعين ,ورغم أرستقراطيتها إلا أنها امتزجت بالشعب متأملة بعمق للمعاني الإنسانية وكانت كاشفة لعالم أدبي من نوع خاص بالنساء,مهتمه بوضع المرأة,وكافحت من أجل قضيتها متأثرة برموز التنوير في المجتمع في عصرها.
00 وطنيتخوض وتتعرف علي قوت القلوب وبعد محاولات كثيرة كان لنا الانفراد بمقابلة ابنها وهو شيخ الطريقة الدمرادشية الآن.يناديه مريدوه بالدكتور أحمد الدمرداش,حيث درس الهندسة بجامعة فؤاد (القاهرة حاليا),وتدرج علميا حتي حصل علي الدكتوراه من جامعة كمبريدج بإنجلترا.
د.أحمد مختار في العقد الثامن من العمر,ومع ذلك فهو متقد ذهنيا مرتب الأفكار.لما بدأنا الحوار معه خرج عن صمته وعبر عن مكنونات قلبه وما يحتويه صدره من شجون تخص والدته,أحسسنا بالتعاطف معه,لأنه بمجرد أن بدأنا ذكر اسم قوت القلوبحتي ذرفت الدموع من عينيه وأبحر في ذكريات لعصر ولتاريخ يفتقده,ثم بدأ يتماسك وقال لنا:ولدت أمي قوت القلوب الدمراداشية عام 1898 وهي الابنة الصغري لرجل البر والإحسان شيخ الطريقة الدمراداشية عبد الرحيم باشا الدمرداش,الذي تبرع للحكومة المصرية هو وابنته قوت القلوبوزوجته لبناء مستشفي الدمرداش عام .1928
أما والدتها فهيزينب التاوديتزوجت من الأستاذ مصطفي محرم مختار وكان قاضيا آنذاك وأنجبت منه خمسة أبناء,ثم انفصلت عنه بعد ذلك.
انعكس حبها للعلم علي أبنائها الخمسة وأنا أحدهم عبد الحليم مهندس مثلي,ومحسن طبيب,ومصطفي محام,وأختنا الوحيدة زينب حاصلة علي البكالوريا وتزوجت من علي أمين الكاتب الصحفي الراحل وأنجبت منه بنتا,ولكن الزواج لم يكتب له الدوام.
ويواصل د. أحمد اعترافه من بحر الذكريات,فيقول:وقد اجتمعت عوامل متناقضة أثرت في حياة أمي,فقد عانت من صراع بين الزهد والثراء حيث ورثت عن والدها أموالا طائلة وكانت تحتل مكانا في قائمة عشرة أثرياء علي مستوي مصر قاطبة.وقد عانت كذلك من الصراع بين التزامها بتعليم الدين الإسلامي وبين رفضها لقيم وتقاليد مجتمع بالية,حيث تأثرت بفكر قاسم أمين,الذي نادي بتحرير المرأة,وكذلك تبنيها لآراء محمد عبده الذي نادي برؤية عصرية للإسلام,هذا الصراع يقول د. أحمد,أدي إلي خلق امرأة من نوع خاص,وأديبة من نوع متميز ولقبها أغلب معاصروها بالسباحة ضد التيار.
وعن قوت القلوب الأديبة يقول ابنها د. أحمد: إن أمي واحدة من المصريات اللواتي أبدعن في كتاباتهن باللغة الفرنسية,والتي كانت منتشرة بين عائلات مصر الأورستقراطية قبل ثورة يوليو,نشر أول كتاب لها باللغة الفرنسية عن دار المعارف 1934 تحت عنوانمصادقة الفكروفي السنة نفسها نشرت روايتهاحريمعن دار جاليمار الكبري,ثم تنوعت أعمالها الأدبية بين الرواية والقصة القصيرة,ولم يتعرف القاريء المصري عليها إلا مرة واحدة حين نشرت لها مجلة الهلال في عدد ديسمبر سنة 1949 ملخصا لروايةزنوبةومما هو معروف,يقول د. أحمد الدمرداش إن قوت القلوب كتبت روايات عديدة بالفرنسية,منها: ليلة القدر ورمزة وحفناوي الرائع,إلي جانب ثلاث قصص الحب والموت حظيت أعمالها باهتمام المجتمع الغربي,بدليل ترجمتها لأكثر من لغة,والغريب -يقول ابنها د. أحمد مختار- أنه عند قراءة أعمالها يجد المرء نفسه أمام أديبة ثائرة غير تقليدية,وكأنها تؤرخ بالفعل للأوضاع الاجتماعية والسياسية في الفترة ما بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين علي شكل أعمال أديبة تحمل العديد من مواطن الجمال الفني.ومثلما ارتفعت هامة قوت القلوب الأدبية ارتفعت هامتها الإنسانية,وعرف عنها في بر مصر المحروسة أنها سيدة البر والإحسان,حيث يشير أبنها د. أحمد إلي أنها تبرعت بمبلغ ألف جنيه لكلية طب عين شمس للإنفاق علي البحوث التي كان يجريها الدكتور بول غليونجي علي الغدد الصماء,كما فتحت مكتبتها الخاصة بقصرها المجاور لوزارة الخارجية آنذاك لاطلاع طلاب الجامعة,كما خصصت جائزة للأدب الجديد حملت اسمها,وفاز بها سنة 1940 أديبنا الكبير نجيب محفوظ,كما تبرعت لإنشاء مكتبة طبية بمستشفي الدمرداش بمبلغ2000 جنيه,لجعلها تنافس مستشفيات أوربا.
وبديلا عن الدموع نري ابتسامة رقيقة تضيء وجه د. أحمد الدمرداش وهو يتحدث عن والدته,وخاصة فيما يتعلق بأعمالها فيقول:علي الرغم من أورستقراطيتها إلا أنها كانت تدير جميع أعمالها بنفسها مثل والدها,فامتزجت بالشعب وكانت تردد الأمثال الشعبية وتصنع الكعك والفطير مع الخدم في العيد,وفي نفس الوقت كانت حريصة علي حضور الأوبرا الإيطالية والباليه والاستماع للموسيقي الكلاسيكية ,كما كانت محبة للسفر والترحال,فكانت تقضي إجازة سنوية في أوربا بين فرنسا والنمسا,وأثناء الحرب العالمية الثانية توقفت المواصلات إلي أوربا فبدأت تتجول في ربوع مصر,فشدت الرحال للغردقة والقصير والواحات الداخلة والخارجة والفرافرة.
ويجيبنا د. أحمد الدمرداش عن سؤالنا الأكثر إلحاحا حول ما آلت إليه أمور قوت القلوب الدمرداشية في عهد الثورة فإذ به يصارحنا بقوله: لابد أن يعرف المصريون أن قوت القلوب كانت من أصحاب الأيادي البيضاء في كل ميادين الحياة,أحبها الجميع الفقراء قبل الأغنياء,والبسطاء قبل أهل العلم والفكر والأدب.هي مصرية دعمت الثورة وأيدتها إلا أن رجال الثورة-وهذا ليس بغريب عنهم-انقلبوا فجأة عليها وفرضوا الحراسة علي أموالها وممتلكاتها,كما هدموا قصرها سنة 1964 في أربعة أيام لإنشاء نفق للسيارات مكانه,وكان هذا القصر واحدا من أفخم قصور القاهرة الخديوية,إلي جانب موقعه المتميز,حيث كان مجاورا لفندق سميراميس ومبني وزارة الخارجية القديم,وكان والدها قد أهداها القصر في عيد زواجها سنة 1923م بعد أن اشتراه من قطاوي باشاكما صادرت مكتبتها العامرة بآلاف الكتب وهي الموضوعة حاليا في جناح مكتبات الشوامخ بالهيئة المصرية العامة للكتاب.إجراءات رجال الثورة دفعت قوت القلوب لمغادرة مصر بصورة نهائية إلي إيطاليا,هربا من سيطرة وتسلط حكومة الثورة .
عاشت قوت القلوب ما تبقي لها من عمر في إيطاليا علي ذكرياتها وحنينها الجارف إلي مصر التي أحبتها حتي النخاع ولاقت ربها سنة 1968م في ظروف غامضة أشاعت جدلا في كافة الأوساط حتي أن بعضهم أكد أنها قتلت ولم تكن وفاتها طبيعية,ودفنت هناك بالرغم من العقد المبرم بين والدها والحكومة قبل الثورة بأن تدفن ابنته بجواره في الضريح الموجود داخل مستشفي الدمرداش.
وهنا أنهي د. أحمد الدمرداش حديثه عن الأديبة الثائرة بأفراحها وأحزانها والتي لم نكن نعرف عنها شيئا.وخرجنا بسؤال يلح علينا لم نجد له إجابة: لماذا التجاهل الشديد لأعمالها الأدبية التي حظيت بإعجاب أهل الفكر والأدب وخصوصا في فرنسا؟!
مراجعة مادة تاريخية
المهندس :حسن البططي سكرتير د. أحمد الدمرداش