أي تونس بعد زين العابدين بن علي الذي امضي ثلاثة وعشرين عاما في السلطة؟ هل تبقي تونس دولة حضارية تمثل نموذجا يحتذي به قابل للتطوير في المنطقة العربية ام تسقط في التخلف والفوضي والتزمت فيترحم اهلها من الآن علي عهد الرئيس المخلوع مع كل ما تخلله من تجاوزات وقمع وظلم وفساد وجهل بكيفية التعاطي مع الداخل ومع العالم وحتي مع دول الجوار؟
يصعب الاجابة عن هذا السؤال من دون محاولة تحديد الاسباب التي جعلت سقوط بن علي ممكنا. فمن اسقط بن علي هو بن علي نفسه الذي فقد اي تماس مع الشارع التونسي وحتي مع حزبه والمؤسسات الامنية التي لعب دورا اساسيا في صنعها. حصل ذلك لحظة اعتقد ان في استطاعته التصرف كشبه اله قادر علي اختزال تونس في شخصه وعائلة زوجته وانه يستطيع حتي ان يكون رئيسا لمدي الحياة مستندا الي جهاز امني تابع له متجاهلا الحزب والجيش. ذهب به الغرور الي حد الاعتقاد ان في امكان زوجته السيدة ليلي طرابلسي ان تخلفه في حال اضطر يوما الي ترك الرئاسة لاسباب صحية مرتبطة بالتقدم في العمر او بالمرض.
كان ملفتا قبل شهرين, علي هامش الاحتفالات بذكري ##التحول##, اي بذكري وصول بن علي الي الرئاسة في السابع من تشرين الثاني- نوفمبر 1987 ان كل الصحف والمجلات التونسية نشرت اعلانات تهنئة بحلول الذكري تضمنت صورة زين العابدين بن علي واخري لـ ##السيدة الاولي##. كان واضحا ان هناك شريكا في السلطة هو ليلي بن علي المولودة ليلي طرابلسي, ابنة العائلة المتواضعة التي حولت اخوتها والقريبين منها, علي راسهم زوج ابنتها صخر الماطري الي منتمين الي شبه عائلة مالكة تسيطر علي جزء من المرافق الحيوية للبلد وتمتلك اليد الطولي والكلمة الاخيرة بالنسبة الي معظم ما له علاقة بالاقتصاد والتجارة والاستثمارات في تونس.
لم يكن في البلد حديث سوي عن العائلة, عائلة ليلي طرابلسي وعن جشع الاخوة وتمدد نشاطهم في كل الاتجاهات. كان هناك بعض التعاطف مع صخر الماطري الذي كان يهيأ لتولي مناصب رفيعة في مرحلة لاحقة نظرا الي انه ينتمي الي عائلة معروفة من البورجوازية التونسية علي العكس من اخوة السيدة الاولي الذين دخلوا عالم الثروة والجاه حديثا, بل حديثا جدا.
كانت هناك نقمة واضحة علي بن علي لاسباب عدة ابرزها تغاضيه عن الفساد, خصوصا عن ممارسات عائلة السيدة الاولي, التي هي زوجته الثانية التي لديه منها بنتان وصبي هو ابنه الوحيد ويدعي محمد زين العابدين. لم يخف ما بقي من كبار الحزبيين, او الحزبيين القدامي, في مجالسهم الخاصة موقفهم السلبي من الرئيس بسبب العائلة. ولكن في العلن, كان الكل منضبطا وكان يتصرف بطريقة توحي ان لا وجود سوي لاجماع وطني حول شخص زين العابدين بن علي الذي رفض دائما وجود رجل ثان او ثالث او رابع في البلد. كانت فكرة وجود سياسي او عسكري آخر في البلد مرفوضة رفضا قاطعا. هناك الرئيس وهناك الآخرون. الاقرب اليه يمكن ان يصنف برتبة موظف في احسن تقدير. لم يكن مسموحا ببروز اي شخصية. وفي مرحلة ما في التسعينيات, لمع وزير اسمه عبدالرحيم الزواري, فانتهي سفيرا في المغرب. وحده عبدالوهاب عبدالله, الذي كان وزيرا للاعلام في 1987 عندما قام بن علي بانقلابه, عرف كيف يصمد وكيف يحافظ علي موقع ما اما كوزير او كمستشار للرئيس الي ان عزله بن علي قبل ثلاثة ايام من اضطراره الي مغادرة البلد تاركا الرئاسة في عهدة الوزير الاول محمد الغنوشي. قبل اضطرار بن علي الي مغادرة تونس, لم يسمع سوي قلة خارج تونس بوجود وزير اول اي رئيس للوزراء اسمه محمد الغنوشي. كان مطلوبا من الجميع, بما في ذلك كبار القادة العسكريين والامنيين ان يكونوا مجرد موظفين عند زين العابدين بن علي و##السيدة الاولي##.
يمكن الحديث عن عوامل عدة ساهمت في سقوط بن علي الذي استطاع تحقيق انجازات كبيرة علي راسها قيام طبقة متوسطة انفتح ابناؤها علي العالم وعلي الانترنت وكل ما له علاقة بالتواصل مع الآخر. استخدم شباب تونس في انتفاضتهم الانترنت علي الرغم من القيود التي فرضتها السلطة علي مواقع عدة. في عهد بن علي, كانت تونس ورشة كبيرة. وقد ارتفع معدل دخل الفرد الي ما يزيد علي ثلاث آلاف وخمسمئة دولار سنويا. وهذا رقم محترم اذا اخذنا في الاعتبار ان تونس لا تمتلك ثروات طبيعية من جهة والعواصف السياسية المحيطة بها من جهة اخري. كذلك, لا يمكن تجاهل ان المرأة التونسية حافظت في عهده علي حقوقها وساهمت في التصدي لظاهرة التطرف الديني التي التقطت انفاسها في السنوات القليلة الماضية واستعادت المبادرة, خصوصا في الاحياء الفقيرة القريبة من المدن. باتت هذه الظاهرة تشكل حاليا, في ضوء اطاحة زين العابدين بن علي, الخطر الاكبر علي مستقبل تونس والتونسيين, بل علي المنطقة كلها.
ولكن ما قتل النظام الذي اقامه الرئيس التونسي السابق في نهاية المطاف هو الفردية. حالت الفردية دون نزول بن علي من برجه العاجي. ليس صحيحا ان مستشاريه لم يقولوا له الحقيقة, كما ادعي الرجل في خطابه الاخير قبل اربع وعشرين ساعة من المغادرة, وكان بمثابة خطبة الوداع. الصحيح انه لم يكن في استطاعة اي مستشار مواجهة الرئيس بالواقع في حال كان عليه البقاء في منصبه.
تعلم مستشارو بن علي الدرس منذ اللحظة الاولي التي تولي فيها الرجل السلطة. يعرفون ماذا حل بالعسكريين اللذين شاركا معه في تنفيذ الانقلاب علي بورقيبة. لم يستطع بن علي الذي كان في عام 1987 رئيسا للوزراء ازاحة بورقيبة لولا دعم الجيش والحرس الوطني. علي راس الحرس الوطني كان الحبيب عمار وفي الجيش كان هناك ضابط بارز هو عبدالحميد الشيخ. الاثنان كانا شريكين في الانقلاب وكانا قبل ذلك رفاق سلاح لـبن علي وقد تخرج الثلاثة من كلية سان سير العسكرية في فرنسا. من دون الحبيب عمار وعبد الحميد الشيخ لم يكن هناك مجال لقلب بورقيبة والتخلص من رجال اقوياء في السلطة في حجم محمد الصياح او منصور الصخيري الذي كان وزيرا للدفاع. بعد سنة من الانقلاب, صار الحبيب عمار سفيرا لتونس في فيينا بعدما تولي وزارة الداخلية لفترة وجيزة. اما عبدالحميد الشيخ, فانصرف الي تطوير الرياضة في البلد!…
لم يعد مسموحا بان يكون هناك رجال سياسة في تونس. هناك بن علي ولا احد آخر غير بن علي. حتي في مجال الاعمال, لم يعد هناك مكان لشخصية من خارج العائلة بدليل ما حل بكمال لطيف الذي كان في مرحلة معينة في التسعينات من القرن الماضي يمتلك نفوذا في المجالين السياسي والاقتصادي. كان هناك حتي وزراء يعتبرون محسوبين علي كمال لطيف. مع مرور الوقت, غاب الرجل عن المسرح السياسي والاقتصادي. لم يعد مكان سوي للعائلة الجديدة, عائلة الزوجة الثانية. حتي ازواج بنات بن علي من زوجته الاولي (لديه منها ثلاث بنات) فقدوا نفوذهم وجري تهميشهم.
في عهد الحبيب بورقيبة, كانت هناك وجوه سياسية معروفة. كان هناك مكان لرئيس الوزراء ووزراء من ذوي الاوزان الثقيلة. في عهد بن علي لم يعد هناك مكان سوي للموظفين. في بداية عهده كان رئيس الوزراء الهادي بكوش شخصية معروفة وقد لعب دورا في عملية انتقال السلطة الي الرئيس الجديد. كتب البكوش البيان الذي تلاه بن علي محددا فيه الاسباب التي تدعو الي عزل بورقيبة لاسباب صحية اولا تمنعه من ممارسة صلاحياته الرئاسية. لم تمض اشهر الا واصبح الهادي بكوش في بيته وحل مكانه موظف لا طعم له ولا رائحة.
انسحب التفرد بالسلطة علي كل مرافق الحياة في تونس. لم يعد مكان لمحمد مزالي رئيس الوزراء في عهد بورقيبة الذي اضطر الي الفرار عن طريق الجزائر كي لا ينتهي في السجن. لم يعد الحزب الحاكم, الذي جري تغيير اسمه, سوي جهاز تابع للرئيس لا يتسع لاي شخصية تمتلك حيثية. لم يدافع الحزب الذي يضم ما يزيد علي مليونين ونصف مليون عضو عن بن علي, علما انه كان يفترض به ان يفعل ذلك, خصوصا ان لديه سبعة آلاف شعبة موزعة علي كل انحاء تونس. تبخر الحزب (التجمع الدستوري) وبدا اعضاؤه وكانهم جزء من المعترضين علي النظام الذي قام اصلا علي الحزب!!
كانت هناك ثلاث ركائز للنظام الذي اقامه بن علي. خذلته الركائز الثلاث, كل علي طريقتها. الحزب لم يتحرك. قوي الامن التابعة مباشرة للرئاسة ولجهازها الامني, اطلقت النار علي المتظاهرين. لم يكن المشرفون عليها يمتلكون حدا ادني من الوعي السياسي الذي يسمح بتقدير الموقف ومعرفة ان الدم لا يجر سوي الدم وانه يستجلب مزيدا من المقاومة الشعبية للسلطة ورموزها. اما الركيزة الاخيرة فكانت الجيش. انتقم الجيش من بن علي الذي تصرف مع ضباطه باستعلاء. انتظر الجيش ثلاثة وعشرين عاما كي يجعل الرئيس التونسي يدفع ثمن عدم تقديره لدوره في المحافظة علي الامن وضبط الوضع لدي حصول ##التحول## في العام .1987
صحيح ان انتفاضة شعبية اطاحت بن علي. لكن الصحيح ايضا انه كانت هناك قوة منظمة تعمل في الخفاء تحرك الشارع. استغلت هذه القوة نبض الشارع وبراءة الشباب التونسي. عاد الاسلاميون الي الواجهة في تونس. عملوا في السنوات الاخيرة في الخفاء. استفادوا من ترهل النظام واجهزته ومن تقدم زين العابدين في العمر ومن سيطرة العائلة علي القصر الرئاسي وعلي كل ما له علاقة بالاعمال. الاسلاميون يمثلون القوة الصاعدة في تونس, اللهم الا اذا استطاع الحزب ايجاد شخصية قوية قادرة علي التصدي لهم!
كان في الامكان الدفاع عن الانجازات الكثيرة التي حققها زين العابدين بن علي لولا الدم الذي سال في الاسابيع القليلة الماضية. تحول الرجل من ديكتاتور, حقق بلغة الارقام انجازات كبيرة لكنه لا يتحمل سماع اسم آخر غير اسمه, الي مسئول عن دم زهاء ثمانين تونسيا سقطوا في الاحداث الاخيرة. حتي لو كان هناك من يقول ان قوي الامن استدرجت واضطرت الي اطلاق النار علي المتظاهرين, لا شيء يبرر سقوط ضحايا. دفع بن علي ضريبة الدم تاركا تونس في مهب الريح. ماذا سيفعل الحزب الحاكم؟ هل بقي شيء من الحزب ام نخره الاسلاميون الذين حال بن علي دون انقضاضهم علي السلطة في العام 1987 ؟ ماذا سيفعل الجيش؟ هل لديه القدرة علي السيطرة علي البلد ووضع حد للفوضي المنتشرة في كل انحاء البلد؟
ليس مستبعدا ان يكون الحدث الذي شهدناه يوم الرابع عشر من كانون الثاني- يناير 2011 بداية مسلسل ليس الا, يطال الجوار التونسي وحتي المنطقة العربية كلها عاجلا ام آجلا. هذا مجرد افتراض. ولكن ربما تكون احداث تونس, في حال انتقال البلد الي حال من الفوضي, درسا لدول عربية اخري, بما في ذلك الجزائر حيث قد يضطر المواطن العادي الي التفكير مليا قبل المشاركة في اي تحرك من اي نوع كان لاحداث تغيير جذري في البلد. السؤال في النهاية هل سيترحم التونسيون علي بن علي ام سيتمكنون من اقامة نظام افضل قائم علي التعددية الحزبية والتبادل السلمي للسلطة والمحافظة علي حقوق المرأة والانفتاح علي كل ما هو حضاري في العالم؟