لا زلنا نتأمل مزمور 75 الذي اشتكي المرنم فيه لله من عدو يقاومه,وكانت شريعة العهد القديم تقول إن عينا بعين, وسنا بسن, ويدا بيد ورجلا برجل (خر21:24), فكان يحق للمرنم أن يطلب تدمير أعدائه,ولكنه بدلا من هذا قدم لهم التحذيرات والنصائح,ونبههم إلي قضاء الله العادل ليتوبوا:
1- حذرهم من الكبرياء: قلت للمفتخرين: لا تفتخروا, وللأشرار: لا ترفعوا قرنا. لا ترفعوا إلي العلي قرنكم (آيتا4:5أ). المفتخرون هم الذين يعتزون بأنفسهم لا بالرب,فيقال لهم: لماذا تفتخر بالشر أيها الجبار؟ (مز52:1). لقد رفع الشرير قرنه إلي العلي,إلي مكان سكني الله. والقرن يرمز إلي القوة,فبه ينطح الثور. وكان القرن لقبا للملوك لأنهم ذوو سلطة وقوة (دا7:7 ومز132:17). ويحذر المرنم أعداءه من الافتخار,فطوبي للمساكين بالروح (مت5:3). لأنهم يدركون أن كل ما عندهم من سلطان هو عطية الله,فيقول كل منهم: بالرب تفتخر نفسي (مز34:2).
تضايق الوزير الفارسي هامان لأن مردخاي بواب القصر رفض أن يسجد له,طاعة للوصية: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد (مت4:10),وفي كبريائه قرر أن يقتل مردخاي مصلوبا,فصلب هو علي الخشبة التي جهزها لمردخاي (أس7:9, 10).
وفي كبرياء قلبه نظر نبوخذ نصر إلي عاصمته العظيمة وقال: أليست هذه هي بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال مجدي؟ والكلمة بعد بفم الملك وقع صوت من السماء قائلا: لك يقولون يا نبوخذ نصر الملك: إن الملك قد زال عنك,ويطردونك من بين الناس,وتكون سكناك مع حيوان البر,ويطعمونك العشب كالثيران,فتمضي عليك سبعة أزمنة حتي تعلم أن العلي متسلط في مملكة الناس,وأنه يعطيها من يشاء (دا 4:28-32). وهكذا كان,حتي أدرك أن العلي صاحب السلطان في مملكة الناس,فرجع إليه عقله وأعادوه لعرشه.
كان هيرودس ساخطا علي الصوريين والصيداويين فحضروا إليه بنفس واحدة واستعطفوا بلاستس الناظر علي مضجع الملك,ثم صاروا يلتمسون المصالحة لأن كورتهم تقتات من كورة الملك. ففي يوم معين لبس هيرودس الحلة الملوكية وجلس علي كرسي الملك وجعل يخاطبهم. فصرخ الشعب: هذا صوت إله لا صوت إنسان.ففي الحال ضربه ملاك الرب لأنه لم يعط المجد لله. فصار يأكله الدود ومات (أع12:20-23). وهكذا أهلك هيرودس نفسه بكبريائه,لأنه قبل أن يصيبه المرض الجسدي أصابه داء الكبرياء.
2- حذرهم من العناد: لا تتكلموا بعنق متصلب (آية5ب). قالت حنة أم النبي صموئيل: لا تكثروا الكلام العالي المستعلي,ولتبرح وقاحة من أفواهكن,لأن الرب إله عليم,وبه توزن الأعمال (1صم2:3). والعنق المتصلب هو المتكبر. وعلي الإنسان أن يتعلم التواضع,فكم ضم باطن الأرض من عظماء وأصحاب مراكز أثرياء,وستظل تضم. فلنتخل عن العنق المتصلب,ولننحن أمام الله بتواضع,كما تواضعت العذراء القديسة مريم وقالت: تعظم نفسي الرب… لأنه نظر إلي اتضاع أمته,فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني لأن القدير صنع بي عظائم… صنع قوة بذراعه. شتت المستكبرين بفكر قلوبهم. أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين (لو1:46-52).
3- ذكرهم بالسلطان الإلهي: لأنه لا من المشرق ولا من المغرب ولا من برية الجبال. ولكن الله هو القاضي. هذا يضعه وهذا يرفعه (آيتا6, 7).هاجم الأعداء شعب الرب من كل جهة: من الشمال والجنوب وشبه الجزيرة. ولكن هناك أملا للمؤمن ورعبا للظالم,لأن الله هو القاضي,كما قال إشعياء: فإن الرب قاضينا. الرب شارعنا (المشرع لنا). الرب ملكنا,هو يخلصنا (إش33:22). الرب يميت ويحيي يهبط إلي الهاوية ويصعد. الرب يفقر ويغني. يضع ويرفع (1صم2:6, 7). الرب يرفع الودعاء,ويضع الأشرار إلي الأرض (مز147:6).
4- حذرهم من العقاب الإلهي: لأن في يد الرب كأسا وخمرها مختمرة. ملآنة شرابا ممزوجا وهو يسكب منها. ولكن عكرها يمصه,يشربه كل أشرار الأرض (آية8). يشير الكأس هنا إلي العقاب الإلهي,كما قال المرنم عنه: أسقيت يارب شعبك عسرا.سقيتنا خمر الترنح (مز60:3). وقد أمر الرب النبي إرميا: خذ كأس خمر هذا السخط من يدي,واسق جميع الشعوب الذين أرسلك أنا إليهم إياها,فيشربوا ويترنحوا ويتجننوا (إر25:15, 16). وقال النبي إشعياء لبلاده: قومي يا أورشليم التي شربت من يد الرب كأس غضبه. ثقل كأس الترنح شربت,مصصت (إش51:17). وكأس الخمر المختمرة في يد الله يعني أن العقاب الإلهي علي الشرير عقاب شديد. والكأس ملآنة شرابا ممزوجا بمعني أن عقوباتها متنوعة وكثيرة,يسكب الله منها,لأنها لا تزال تمتلئ من غضبه ولا تفرغ,يشربها الأشرار حتي العكر المترسب في قاعها,فلا تبقي فيها قطرة.
وقد يبدو هذا الكلام قاسيا,لكن الحقيقة هي أن الذي يشرب كأس غضب الله حتي ثمالتها هو الذي رفض رحمة الله,مع أن الله طالما دعاه للتوبة فرفض,وبرفضه يذخر لنفسه غضبا في يوم الغضب ويوم استعلان دينونة الله العادلة (رو2:5).