المزموران 75 و76 ترنيمتان للشكر كتبهما آساف بمناسبة النجاة التي قدمها الرب له, بعد أن استمع إلي شكواه التي رفعها في مزمور 74, وكان المزموران 75 و76 يرتلان في مناسبات الانتصار القومي. وهما يشبهان المزمورين 46, 48 الذين رنمهما بنو قورح, فقد دان الله العدو التكبر وحطمه, واختبر المرنم من جديد أن الله هو القاضي العادل الذي ينصر شعبه, وتحققت نبوة إشعياء: وتكون بكم أغنية كليلة تقديس عيد, وفرح قلب كالسائر بالناي ليأتي إلي جبل الرب, إلي صخر إسرائيل (إش30:29).
ولا نعرف بالضبط ما هي مناسبة كتابة هذا المزمور, ولعلها هلاك 185 ألف جندي آشوري ممكن كانوا يحاصرون أورشليم (2مل19:35).. وهو اختبار يكرره الله مع شعبه عبر العصور.
يبدأ المرنم مزموره ويختمه بحمد الله وتمجيده لأنه جاوبه علي شكواه.
1- يحمده حمدا مؤكدا: نحمدك يا الله, نحمدك (آية 1أ). تتكرر كلمة نحمدك للتنبير علي توحد القلب في شكر الله الدائم علي مراحمه التي تتجدد كل صباح. لقد فاض قلب المرنم بالحمد لله المنقذ من المعاناة الشديدة, والذي كانت رحمته أقوي من كل ضيقة. ويتعلم كل مؤمن حقيقي أن يشكر في كل حين علي كل شئ, ويفعل ما فعله السامري الأبرص الذي شفاه المسيح مع تسعة آخرين, فرجع هو فقط ليقدم شكره لشافيه. وسأل المسيح: أليس العشرة قد طهروا؟ فأين التسعة؟ (لوقا 17:17). لأن كثيرين ينالون ولا يشكرون.
والمؤمن الحقيقي يشكر حتي علي الظروف السيئة, لا لأنها سيئة, ولكن لأن الله سيخرج منها شيئا حسنا, فمن الآكل يخرج أكل, ومن الجافي تخرج حلاوة (قض14:14), ونقول دائما أن للصديق خيرا (إش3:10).
2- يحمده علي قربه: واسمك قريب (آية1ب). اسم الرب هو شخصه وما أعلن به ذاته للبشر, وهو دائما قريب من طالبيه, ولو أن قربه يتضح لهم أكثر في زمان الضيق عندما يبرهن لهم حضوره الحي الفعال وينقذهم. قال موسي لبني إسرائيل: أي شعب هو عظيم, له آلهة قريبة منه كالرب إلهنا في كل أدعيتنا إليه؟ (تث4:7).. قريب هو الرب من المنكسري القلوب, ويخلص المنسحقي الروح.. الرب قريب لكل الذين يدعونه, الذين يدعونه بالحق (مز34:18, 145:18), ليستجب لك الرب في يوم الضيق. ليرفعك اسم إله يعقوب (مز20:1).. لذلك قال الرسول بولس وهو مسجون في روما للمتألمين من الاضطهاد في فيلبي: افرحوا في الرب كل حين, وأقول أيضا أفرحوا.. الرب قريب (في4:4, 5), فهو قريب من المؤمنين أكثر مما يتصورون, كما أن مجيئه ثانية قريب.
3- يحمده علي عجائبه: يحدثون بعجائبك (آية1ج). يتحدث المرنم والمحيطون به عن عجائب الإنقاذ الإلهي, ولسان حاله: أحمد الرب بكل قلبي. أحدث بجميع عجائبك.. اللهم, قد علمتني منذ صباي, وإلي الآن أخبر بعجائبك (مز9:1 و71:17). وهو مندهشون من المعجزات المتكررة التي زادت نضوجهم الروحي, وكأنهم يقولون مع الرسول بولس: فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا (رو8:18).
كان لابد أن يتدخل الرب, فلابد أن الله يعاقب الشرير, ويحافظ علي المبادئ الأخلاقية في العالم الذي خلقهعت, حتي لو ظهر لعيوننا البشرية في أحيان كثيرة أن الفوضي تعمه, لكنه سبحانه بني الكون مثل بيت متزن الأعمدة تخبر السماوات بعدله, لأن الله هو الديان (مز50:6).. وتقول هاتان الآيتان:
1- للتدخل الإلهي موعد: لأني أعين ميعادا (آية2أ). يبدو للمتضايق أن الله نسي, لكن لكل شئ زمان, ولكل أمر تحت السماوات وقت (جا3:1). قال المسكين الذي أعيا وسكب شكواه قدام الله: أنت تقوك وترحم صهيون, لأنه وقت الرأفة, لأنه جاء الميعاد (مز102:13). فما أعظم الحكمة في التوقيت الإلهي, فالهدية التي نتلقاها وقت الحاجة إليها هي أفضل هدية. فإن كنتم, وأنتم أشرار, تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة, فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات!.(مت7:11). لأن الرؤيا بعد إلي الميعاد, وفي النهاية تتكلم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها, لأنها ستأتي إتيانا ولا تتزخر (حب2:3), فهناك ميعاد معين لكل عمل يعمل. فلنتظر ميعاد الرب ونحن نقول: انتظارا انتظرت الرب (مز40:1).
عندما قطع الرب ميثاقا مع خليله إبراهيم ووعده أن يمنحه أرض الميعاد, لم يعطها له فورا لأن ذنب الأموريين ليس إلي الآن كاملا (تك15:16), ومنح الرب الأموريين أربعمائة سنة ليتوبوا. وكان يجب أن يفهموا التحذير الحكيم: أم تستهين بغني لطفه وإمهاله وطول زناته, غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلي التوبة؟ (رو2:4).
2- في التدخل الإلهي تحقيق للعدالة: أنا بالمستقيمات أقضي (آية2ب). يؤكد الله أنه وحده سيحق الحق, ويوقع العقاب بالعدو إن لم يتب, وسيجري الحق كالمياه, والبركنهر دائم (عا5:24), ولن يكون هناك ظلم. لأنه أقام يوما هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل (أع17:31).
3- التدخل الإلهي يخضع الجميع: ذابت الأرض وكل سكانها. أنا وزنت أعمدتها (آية3). قد تبدو العدالة في هذا العالم متعثرة, وقد يتزعزع إيمان المؤمن بسبب هذا, فيقول: حقا قد زكيت قلبي باطلا وغسلت بالنقاوة يدي مز(73:13). ولكن الله أقام عالمه علي أسس أخلاقية كالأعمدة الثابتة المتزنة. فعندما تهتز العدالة الأرضية ويسود الظلم يعيد الله للعدالة ثباتها ويعاقب الظلم والظالمين, فيقول المؤمن: انتبهت إلي آخرتهم. حقا في مزالق جعلتهم. أسقطتهم إلي البوار (مز73:17, 18).. لقد وزن الله كل شئ ووضعه في مكانه الصحيح, ولم يخلق الكون وتركه للصدف, ولا أهمل شعبه لحظة! وهذا ما نراه في كل التاريخ.. لقد ذابت الأرض وكل سكانها وهي تشهد حادثة الخروج من مصر, ثم ذابت مرة أخري وهي تشاهد عودة الشعب من سبي بابل ليعيدوا بناء الهيكل. وستذوب الأرض كلها عند مجئ المسيح ثانية ليدين العالمين. لا يتباطأ الرب عن وعده كما يحسب قوم التباطؤ, لكنه يتأني علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناس, بل أن يقبل الجميع إلي التوبة. ولكن سيأتي كلص في الليل يوم الرب, الذي فيه تزول السماوات بضجيج, وتنحل العناصر محترقة, وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها. فبما أن هذه كلها تنحل, أي أناس يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوي, منتظرين وطالبين سرعة مجئ يوم الرب, الذي به تنحل السماوات ملتهبة, والعناصر محترقة تذوب. ولكننا بحسب وعده ننتظر سماوات جديدة وأرضا جديدة يسكن فيها البر (2بط3:9 – 13).