نتأمل اليوم مزمور 74,وهو قصيدة رثاء كتبها آساف المرنم بعد أن خرب نبوخذنصر ملك بابل بلاده عام 586 ق.م,وذبح الكثيرين من شعبه وترك جثثهم في الشوارع.فصارت بلاده موضوع سخرية جيرانها…وهدم الهيكل الذي بناه الملك سليمان وأجرقه,فتوقفت العبادة,وكأن الله قد رفض شعبه(2مل25).وقد بكي النبي إرميا هذا الموقف في مراثيه وقال عن بلاده:تاخت (غاصت)في الأرض أبوابها.أهلك وحطم(العدو) عوارضها .ملكها ورؤساؤها(مسبيون) بين الأمم.لا شريعة.أنبياؤها أيضا لا يجدون رؤيا من قبل الرب.شيوخ بنت صهيون يجلسون علي الأرض ساكتين.يرفعون التراب علي رؤوسهم يتنطقون بالمسح(مرا 2:9, 10).
هذا المزمور صرخة متألم يطالب الله أن يذكر عهده مع شعبه,ويرحمه.وكان بنو إسرائيل يرنمونه في أيام الصوم التي يعترفون فيها للرب بخطاياهم,ويتذللون أمامه ليعيد إلي هيكلهم أمجاده.ويوجد تشابه كبير بين هذا المزمور ومزمور79 في الموضوع والمحتوي,ولابد أن الله ألهم كاتبيهما أن يكتباهما في المناسبة المؤلمة نفسها.
يبدأ المزمور بالشكوي,فعندما زادت آلام المرنم وجه أسئلته من قلب يحب الله إلي الإله الذي يحبه وهو يذكر كلمات النبي إرميا:يارب,عزي وحصني وملجأي في يوم الضيق(إر16:19.سأللماذا رفضتنا يا الله إلي الأبد؟لماذا يدخن غضبك؟.بدا له أن الله رفض شعبه بصفة دائمة,فصارت بلادهمخربا أبدية(آية 3) وأهان العدو اسم اللهإلي الغاية(آية10).وهو يسأل:لماذا؟لا لأنه يتذمر علي الله,بل لأنه يريد أن يعرف ليعدل مساره ومسار شعبه,فيشرق وجه الرب عليه بالرضالأن السيد لا يرفض إلي الأبد(مرا 3:31).لماذا يدخن غضبك؟والدخان يرمز إلي اشتعال نار الغضب الإلهي,كما قال داود إن الرب في غضبه صعد دخان من أنفه.ونار من فمه أكلت.جمر اشتعلت أمامه(مز18:8).
ووصف الشعب المتسائل:لماذا يدخن غضبك علي غنم مرعاك؟اذكر جماعتك التي اقتنيتها منذ القدم وفديتها,سبط ميراثك جبل صهيون هذا الذي سكنت فيه.يذكر المرنم ثلاثة أوصاف لشعبه دفعته للسؤال:
(أ) هم غنم الراعي الصالح:غنم مرعاك.تشجع المرنم وسأل الرب,لأنه راعيه الأمين الصالح المسئول عنه,كما قيل:نحن شعبك وغنم رعايتك,نحمدك إلي الدهر.إلي دور فدور نحدث بتسبيحك(مز79:13).إنه يثق أن الله راعيه,فطالما نادي:هلم نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا,لأنه هو إلهنا ونحن شعب مرعاه وغنم يده(مز95:6, 7).والغنم مشهورة بضعفها وجهلها وسهولة ضلالها,فهي تعرف كيف تضل ولا تعرف كيف ترجع,ولا تستطيع الدفاع عن نفسها.والقول:غنم مرعاكيعني الحاجة إلي الهداية والحماية,وتدبير المصالح بطريقة مستمرة من الراعي الذييرعي قطيعه.بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها ويقود المرضعات(إش40:11).
(ب)هم المفديون الذين اشتراهم:اذكر جماعتك التي اقتنيتها منذ القدم وفديتها,سبط ميراثك(آية2أ).أعطي المرنم نفسه حق الالتجاء إلي الله لأنه من الجماعة التي اختارها الله منذ القديم,وافتداها من عبودية فرعون وأطلقها حرة من سوء العذاب,فصاروا ميراث الرب بين الأمم.وكان موسي قد ترنم بعد الخروج من مصر:ترشد برأفتك الشعب الذي فديته.تهديه بقوتك إلي مسكن قدسك…تقع عليهم(المصريين) الهيبة…حتي يعبر الشعب الذي اقتنيته(خر15:13, 16) ..وفي نور العهد الجديد ندرك معني الفداء والاقتناء أكثر عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفني,بفضة أو ذهب,من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء بل بدم كريم,كما من حمل بلا عيب ولا دنس,دم المسيح(1بط1:18, 19).
(ج) هم الذين سكن الله وسطهم:جبل صهيون هذا الذي سكنت فيه(آية2ب).فالرب رعي شعبه وفداهم,ويحل وسطهم في هيكله المقدس.ولا يمكن أن يخرب إلي الأبد المكان الذي يسكن الله فيه,كما لا يمكن أن يغرق القارب الذي كان المسيح فيه بالرغم من العاصفة العاتية التي واجهت التلاميذ…إن كل الذين يطيعون الأمر:ليحل المسيح بالإيمان في قلوبهم(أف3:17)لا يمكن أن يغرقوا في بحار الهموم والمشاكل!,فما هي الدوافع علي السؤال:(آيات3-9)يذكر المرنم خمسة دوافع:
(أ) العدو حطم الكل:ارفع خطواتك إلي الخرب الأبدية.الكل قد حطم العدو في المقدس(آية3) صرخ المرنم بعبارات بالغة القوة,طالبا التدخل الإلهي للإنقاذ من العدو الذي نشر الخراب,فقد هاجم الأشرار جماعة المؤمنين وهزموهم ودمروا كل شئ,وأخذوا آنية الهيكل المقدسة ووضعوها في بيت صنمهم النجس,فأصبح الهيكل خربا لا يمكن أن يعاد بناؤها.ولا نجاة إلا من الرب الذي يجب أن يفتقد شعبه ليتحقق وعده.
(ب) وضع العدو آياته مكان آيات الله:قد زمجر مقاوموك في وسط معهدك.جعلوا آياتهم آيات(آية4). رفع أعداء الله أصواتهم كالأسود المزمجرة في معهد الله الذي هو هيكله,حيث يأتي شعبه ليسمعوا كلمته ويتعلموها.
(ج) حطم العدو زينة الهيكل:يبان كأنه رافع فؤوس علي الأشجار المشتبكة.والآن منقوشاته معا بالفؤوس والمعاول يكسرون(آيتا5, 6).
(د) أحرقوا الهيكل:اطلقوا النار في مقدسك دنسوا للأرض مسكن اسمك قالوا في قلوبهم:لنفنينهم معا أحرقوا كل معاهد الله في الأرض(آيتا7, 8),أحرق نبوخذنصر الهيكل,وهو المكان الذي اختاره الله ليحل اسمه فيه(تث12:11),والذي قال فيه داود:يارب,أحببت محل بيتك وموضع مسكن مجدك(مز26 :8).وقد أحرق(العدو)بيت الملك وكل بيوت أورشليم.وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار,وجميع أسوار أورشليم مستديرا هدمها(2مل25:9, 10).
(هـ)لم يعد هناك واعظ:آياتنا لا نري.لا نبي بعد ولا بيننا من يعرف حتي متي(آية9)لم يعد هناك شئ يذكر بني إسرائيل بعبادة الرب,فلا عبادة,ولا أعياد,ولا حفظ سبوت,ولا ملك ولا كاهن.وكان الرب قد قال لموسي:سبوتي تحفظونها,لأنه علامة بيني وبينكم في أجيالكم,لتعلموا أني أنا الرب الذي يقدسكم(خر31:13) وتحقق المرنم من قول النبي حزقيال:ستأتي مصيبة علي مصيبة..فيطلبون رؤيا من النبي والشريعة تباد عن الكاهن والمشورة عن الشيوخ(حز 7:26).