تحدث المزمور 71 عن بر الله, ويتحدث هذا المزمور الثاني والسبعون الذي نتأمل فيه اليوم عن البركات التي ستفيض من ممثله في الأرض, والذي ظن الشعب القديم أنه سليمان بن داود, ولكن في الحقيقة المسيا المخلص المنتظر الآتي من نسل داود. وقد رأينا مزامير كثيرة يصرخ فيها صاحبها من الظلم, ولكننا في هذا المزمور نري الملك العادل الذي يناصر المظلومين ويوقف أخطاء الظالمين.
عنوان مزمور 72 لسليمان, بمعني أنه خاص به ولأجله. وعنوانه في الترجمات السريانية: مزمور لداود لما ملك سليمان, ونبوة خاصة بمجئ المسيا, ونداء للأمم. والأغلب أن داود هو الذي كتب هذا المزمور, وأن سليمان سمعه من والده وسجله قبل وفاة داود, أو بعدها بوقت قليل.
في هذا المزمور يري داود ملك سليمان القادم رمزا لملك المسيح المسيا الملك المخلص الآتي. وواضح أن سليمان بدأ بداية عظيمة وانتهي نهاية أليمة, وكان قاسيا علي شعبه حتي قالوا بعد موته لابنه رحبعام, الذي كان سيتولي الملك من بعده: إن أباك قسي نيرنا, فالآن خفف من عبودية أبيك القاسية ومن نيره الثقيل الذي جعله علينا, فنخدمك (2 أخ 10 : 4). ولما رفض رحبعام رجاء الشعب انقسمت المملكة, فلم يتحقق انتظار داود في سليمان. إذا ستتحقق نبوة مزمورنا في المسيا الملك, ابن الملك, الذي قيل عنه: هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور, وديع.. ويتكلم بالسلام للأمم, وسلطانه من البحر إلي البحر, ومن النهر إلي أقاصي الأرض (زك 9: 9, 10). وقد اختارت الكنيسة الأولي هذا المزمور كمزمور خاص بالميلاد, لأن المجوس جاءوا من بعيد ليقدموا السجود للملك الوليد, وقدموا له الذهب اللبان والمر (مت2:11). فلنصل أن تتحقق كلمات هذا المزمور في حياتنا, فيملك المسيح علينا.
يبدأ هذا المزمور بالحديث عن ملكوت المسيا أنه ملكوت عادل (آيات 1 – 7), ويقدم ثلاث أفكار:
1- الشعب يطلب الملكوت العادل: اللهم أعط أحكامك للملك, وبرك لابن الملك (آية 1). إن القضاء لله (تث 1 : 17) ولكنه أعطي أحكامه للملك ابن الملك. وللملك الأرضي سلطان نابع من أبيه الملك السابق, كما أن له سلطانا في شخصه. وقد تراءي الله للملك سليمان بن الملك داود في جبعون في حلم وسأله ماذا يعطيه, فطلب سليمان قلبا فهيما ليميز بين الخير والشر (1مل 3 : 6 – 9). وآتاه الله ما طلب. ومع أن سليمان أحب أن يسير في فرائض داود أبيه, إلا أنه كان يذبح ويوقد في المرتفعات, كما يفعل الوثنيون, فلم تتحقق نبوات هذا المزمور فيه, فكان لابد أن تتحقق في المسيا الملك الآتي, المسيح, الملك ابن الملك, الذي له عرش داود, والذي قال عنه الملاك جبرائيل للعذراء من قبل الحبل به: هذا يكون عظيما, وابن العلي يدعي, ويعطيه الرب الإله كرسي داورد أبيه, ويملك علي بيت يعقوب إلي الأبد, ولا يكون لملكه نهاية (لو 1: 32, 33). وقد قيل عنه بروح النبوة: يحل عليه روح الرب.. فلا يقضي بحسب نظر عينيه, ولا يحكم بحسب سمع أذنيه, بل يقضي بالعدل للمساكين, ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض ويضرب الأرض بقضيب فمه, ويميت المنافق بنفخة شفتيه (إش 11: 2 – 4). وسيتحقق هذا الانتظار أيضا في المسيح الذي سيأتي أرضنا قاضيا عادلا لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي, كذلك الابن أيضا يحيي من يشاء (يو 5 : 21). وهذا دعاؤنا اليوم: ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك, كما في السماء كذلك علي الأرض (مت 6 : 10).
ثم يقدم المرنم وصفا للملكوت العادل (آيات 2 – 6). فيصفه بأنه:
(أ) ملكوت عدل يمنح السلام: يدين شعبك بالعدل ومساكينك بالحق. تحمل الجبال سلاما للشعب, والآكام بالبر (آيتا 2, 3). هو ملكوت العدالة لمنكسري القلوب, المحتاجين لحماية حكومة عادلة (إش3: 14, 15). وهذا بيان المسيح الرسمي في مجمع الناصرة, حين قال: روح الرب علي, لأنه مسحني لأبشر المساكين, أرسلني لأشفي المنكسري القلوب (لو 4: 16 – 19) وقد جاء المسيح بسنة يوبيل حقيقية, هي سنة الرب المقبولة التي فيها تسقط الديون, وتعود الأراضي المرهونة لأصحابها, ويطلق العبيد أحرارا. وهذه دعوته الدائمة: تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال, وأنا أريحكم (مت11: 28).
وكنتيجة للعدالة التي تسود الجميع تحمل الجبال سلاما للشعب, والآكام بالبر. والجبال والآكام كناية عن أكابر البلاد وأعيانها. فعندما يسود الملك العادل يسود السلام, لأن الملك يطمئن شعبه, فيحمل أصحاب المناصب الكبيرة والهامات العالية للشعب سلاما, لأن الجبل العالي يري حاجة الوادي المنخفض, فيفيض عليه مما أاض الله به عليه. ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتا في رأس الجبال, ويرتفع فوق التلال, وتجري إليه كل الأمم.. فيقضي بين الأمم.. لا ترفع أمة علي أمة سيفا.. فييسكن في البرية الحق, والعدل في البستان يقيم, ويكون صنع العدل سلاما, وعمل العدل سكونا وطمأنينة إلي الأبد (إش 2:2 – 4 و32: 16, 17). إنه المسيح, الذي هو الملك والكاهن, علي رتبة ملكي صادق, ملك البر والعدل بفضل سداده لديوننا علي الصليب, كما أنه ملك السلام بفضل أنه صالحنا مع الله بموته. وعندما يجئ إلي أرضنا سيفتقد شعبه برحمته, ويكافئ أمانتهم, ويعاقب أعداءهم الذين ظلموهم.
(ب) ملكوت يعلم التقوي: يقضي لمساكين الشعب. يخلص بني البائسين, ويسحق الظالم. يخشونك ما دامت الشمس, وقدام القمر إلي دور فدور (آيتا 5,4). أهمل قضاة بني إسرائيل العدالة لم يقضوا في الدعوي, دعوي اليتيم. وقد نجحوا. وبحق المساكين لم يقضوا (إر 5: 28). فجاء المسيا لينقذهم, لأن ملكوته ملكوت العدالة للمظلومين من الأطفال واليتامي والأرامل, والمحتاجين لحماية خاصة, والذين يشعرون بالوحدة, والعاجزين عن مواجهة الحياة, والمهمشين, والذين لا يجدون من يعتنون بهم (إش 10 : 2). لأن الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة, والرحمة تفتخر علي الحكم (يع2 : 13).
ونتابع يوم الأحد المقبل تأملنا في مزمور 72 إن شاء الله.