بدأ المرنم مزمور 63 بالتعبير عن شوقه للرب,وشرح أسلوب التعبير عن هذا الشوق,فقال إنه بالشكر وبالصلاة:
(أ) بترتيل الشكر: شفتاي تسبحانك. هكذا أباركك في حياتي (آيتا 3ب و4أ). عبر عن اشتياقه للرب بالتسبيح.شفتاه تسبحان وحياته أيضا تسبح شكرا وحمدا للإله الصالح القوي المجيد القدوس الرحيم. هكذا بسبب رحمتك أباركك وأمدحك وأرنم لك ما دمت موجودا. وكلما ذكرنا حسنات الرب باركناه بكل ما في باطننا (مز103:1, 2). إن مراحمك علينا لا تزول,وهي جديدة في كل صباح (مرا3:22, 23) لذلك نرنم له بتسبيح لا يزول,وفي كل صباح.
(ب) بالصلاة: باسمك أرفع يدي (آية 4ب). نرفع أيدينا باسم الرب الذي يعلن لنا ذاته,ويقول: إن سألتم شيئا باسمي فإني أفعله (يو14:14).فنقول: استمع صوت تضرعي إذ أستغيث بك,وأرفع يدي إلي محراب قدسك (مز28:2). هكذا بسط الملك سليمان يديه وهو يرفع لله صلاة تدين الهيكل,وقال: أيها الرب إله إسرائيل,ليس إله مثلك في السماء من فوق وعلي الأرض من أسفل,حافظ العهد والرحمة لعبيدك السائرين أمامك بكل قلوبهم (1مل8:22). وقال الرسول بولس: أريد أن يصلي الرجال في كل مكان رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال (1تي2:8). ففي الصلاة نرفع اليدين لله ونبسطهما,رمزا للقلب المصلي المرفوع أمام عرش الرب: إليك يارب أرفع نفسي (مز25:1). والذي يرفع يديه يعبر عن يقظته للصلاة,وعدم انشغاله إلا بالصلاة وتركيزه علي الرب الذي يخاطبه.
ويؤكد لنا المرنم أن الذي يشتاق إلي الرب بشبعه الرب بشخصه الكريم. ويقدم المرنم سبب شبعه بالرب بقوله كما من شحم ودسم تشبع نفسي (آية 5أ). فيعترف أن الله أشبع قلبه. ولا يقصد داود الشحم والدسم حرفيا,فهو يقول كما من شحم ودسم. بل يقصد أن الرب يشبعه بالسماويات والإلهيات والروحيات,وبكل ما هو للرب.
وللتعبير شحم ودسم معنيان:
(أ) غني ودسامة تشبعان لوقت طويل: كان الشحم أغلي أجزاء الذبيحة,لأنه أكثر أجزائها إشباعا للإنسان وعطية الله هي الأفضل وتعطي الشبع المستمر…في النشيد الذي رنمه موسي بعد كتابة التوراة,يصف بركات الرب علي شعبه بقوله إنه أعطاهم زبدة بقر ولبن غنم,مع شحم خراف وكباش (تث32:14). ويقول النبي إشعياء إن الشحم والدسم هما وليمة الله القادمة لشعبه دردي سمائن ممخة (إش25:6). وقال الرب: أروي نفس الكهنة من الدسم,ويشبع شعبي من جودي,يقول الرب (إر31:14).
(ب) شبع الإنسان بالإلهيات: أمرت شريعة موسي بإحراق شحم الذبيحة كله لله: كل الشحم للرب,فريضة دهرية في أجيالكم في جميع مساكنكم,لا تأكل شيئا من الشحم (لا3:16, 17). ويصف المرنم الشبع السماوي بقوله: ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب.طوبي للرجل المتوكل عليه (مز34:8). ونحن دائما ضيوف الملك الذي يرتب لنا مائدة,ويجعل كأسنا ريا (مز23).
ثم يشرح لنا المرنم نتيجة الشبع فيقول: بشفتي الابتهاج يسبحك فمي. إذا ذكرتك علي فراشي,في السهد ألهج إليك,لأنك كنت عونا لي,وبظل جناحيك أبتهج (آيات 5ب-7). عندما شبعت نفس المرنم بالإلهيات فاضت شفتاه بالتسبيح فلنتقدم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح,أي ثمر شفاه معترفة باسمه (عب13:15). وهو يسبح إذا ذكرتك. وإذا هنا ظرفية وليست شرطية,وتعني أن المرنم كلما جافاه النوم أخذ يتأمل مراحم الرب ويتذكرها شاكرا,فتطمئن نفسه وهو مستمر في تفكيره وحمده ليلا ونهارا. إن عقله الواعي والباطن لا يكفان عن التأمل في العناية الماضية التي تجعله يذكر الرب بفرح,فيشكره لأنه كان عونا له ويبتهج بظل جناحيه,والمرنم يفكر في النسر ذي الجناحين الكبيرين القويين اللذين يحميان صغاره,والذي وصفه موسي بقوله: كما يحرك النسر عشه وعلي فراخه يرف,ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها علي مناكبه,هكذا الرب (تث32:11, 12). أو لعله يفكر في جناحي دجاجة حانية علي فراخها كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها (متي 23:37).
ويقرر المؤمن الذي شبع أن يتعهد للرب أن التصقت نفسي بك (آية 8أ). تمم المرنم الوصية: الرب إلهك تتقي.إياه تعبد وبه تلتصق (تث10:20).فكانت علاقته بالرب عميقة ومستمرة,كما يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته,ويكون الاثنان جسدا واحدا (تك2:24).يلتصق المرنم بالرب كما التصقت راعوث بنعمي وهي تقول: حيثما بت أبيت (را1:16),وكما يلتصق الغصن بالكرمة ليأخذ العصارة فيأتي بالثمر. التصقت نفس داود بالرب بدون معطل يمنع وصول البركة إليه,فكان الرب رأسه وقائده. وصار هو الخاضع المطيع. وكما لا ينفصل الجسد عن رأسه التصق داود بالرب وثبت فيه,فثبت الرب في داود والتصق به. ومحبة المسيح لن تنفصل عنك وأنت تقول: من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ (رو8:35).
2- نتيجة العهد: (آيات 8ب-11). ذكر المرنم نتيجة لثبوته في عهده مع الله:
ارتفاع المؤمن: يمينك تعضدني. أما الذين هم للتهلكة يطلبون نفسي فيدخلون في أسافل الأرض. يدفعون إلي يدي السيف.يكونون نصيبا لبنات آوي (آيات 8ب-10).يقول الرب للمرنم: لا تخف لأني معك. لا تتلفت لأني إلهك.قد أيدتك وأعنتك عضدتك بيمين بري (إش41:10). يهلك الرب أعداء المرنم فيدخلون في أسافل الأرض بأن يموتوا ويدفنوا. ولعل المرنم يذكر ما حدث لمساكن قورح وداثان وأبيرام الذين رفضوا قيادة موسي وقاموا بثورة وانقلاب فاشل ضده,ففتحت الأرض فاها وابتلعتهم,فهبطوا أحياء إلي الهاوية (عد6:25-30) وتحقق معهم إنذار الرب للخطاة: أجعلهم يسقطون بالسيف أمام أعدائهم وبيد طالبي نفوسهم,وأجعل جثثهم أكلا لطيور السماء ولوحوش الأرض (إر19:7). فكذا سقط شاول علي سيفه, وكل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون (مت26:52.