نتأمل اليوم المزمور الثالث والستين الذي كتبه داود عندما كان في برية يهوذا,بعيدا جغرافيا عن بيت الرب,وفيه يعلن شوقه البالغ لحضور العبادة في بيت الرب,حيث يري المجد الإلهي ويجد القوةالروحية.إنه يحب الرب جدا,ويأنس إليه ويأتنس به,ويتحدث إليه.وكانت له اختبارات روحية كثيرة وهو هارب في برية يهوذا,التي اختبأ في كهوفها مرات كثيرة من شاول,ومرة من ابنه أبشالوم لما قام بالانقلاب الفاشل ضده.
وكانت العبادة في العهد القديم تقترن دوما بتقديم ذبيحة في هيكل الرب,كما فعلت حنة أم صموئيل النبي(1صم1).ولكن عبادة داود لم تكن قاصرة علي الطقوس,بل علي العلاقة الشخصية العميقة بالله,فقد كان بينه وبين الرب ود وحب.وعندما هرب من أمام ابنة أبشالوم أحضر الكاهن صادوق ومعه اللاويون تابوت عهد الرب إلي حيث كان داود,فقال للكاهن:أرجع تابوت الله إلي المدينة,فإن وجدت نعمة في عيني الرب فإنه يرجعني ويريني إياه ومسكنه(2صم15:25).
في برية يهوذا كان داود فيبرية نفسيةوعطش روحي إلي الله.وفي بعده الجغرافي عن بيت الرب عبر عن شوقه للرب,فكتب هذا المزمور,الذي قال عنه القديس يوحنا فم الذهب:يجب أن يقرأ هذا المزمور كل صباح لأنه دواء يمحو الخطية,ويوقد في قلوبنا حرارة الشوق إلي الله ويشعل فيها نار التعبد له,فتفيض حياتنا بالصلاح والمحبة,ونتجهز للاقتراب من الله والتواجد في حضرته.
في مطلع المزمور الثالث والستين يقدم المرنم سبعة أسباب لشوقه للرب:
(أ)لإنه إلهه:يا إلهي(آية1أ).انتمي المرنم للرب فلا يمكن أن يجد راحته بعيدا عنه,كما قال القديس أغسطينوس:اللهم,لقد خلقتنا لذاتك,فلن تجد نفوسنا راحة إلا إذا استراحت فيك.هو الإله القوي الذي نلجأ إليه بثقة وقت أزماتنا.
(ب)لإنه الأول في حياته:إليك أبكر(أية1ب).الله هو الأول في حياة المرنم والمتقدم في كل شئ بالنسبة له.يبدأ يومه بالحديث معه لأنه يحبه من كل قلبه وفكره ونفسه وقدرته,كما قيل:كان كل الشعب يبكرون إليه(إلي المسيح)في الهيكل ليسمعوه(لو21:38).وكما قال النبيبنفسي اشتهيتك في الليل.أيضا بروحي في داخلي إليك ابتكر(إش26:9).
(ج)لإنه عطشان إليه:عطشت إليك نفسي.يشتاق إليك جسدي(آية1ج).لقد شبع بالرب,ومع ذلك فإن نفسه متعطشة إليه من جديد.لا تغني الوجبة الروحية عن الجوع والحاجة إلي تناول الوجبة الروحية التالية,كما أن الوجبة الجسدية لا تغني عن وجبة بعدها.إن المؤمن الذي يذوق حلاوة الرب يطلب أن يذوق منها أكثر ويشبع بها أكثر.وكلما اقترب منه وعاش معه اكتشف أنه لا يستطيع أن يبتعد عنه,بل يريد أن يتمتع به أكثر.قال أحد الاتقياء:نخطئ كثيرا عندما نحاول أن نطعم الأموات,لأن موتي الذنوب والخطايا لا يعطشون ولا يجوعون لكلمة الله.لكن الإنسان الحي روحيا هو الذي يعطش للارتواء الروحي ويجوع للشبع السماوي!.والحي روحيا يقول:تشتاق بل تتوق نفسي إلي ديار الرب.قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي(مز84:2).
(د)لإنه العالم لا يرويه:في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء(آية1د).العلم يشبع العقل والطعام يشبع الجسد,لكنهما لا يشبعان الروح التي تظل ظمآنة جانعة إلي الله,لأنه الوحيد الذي يشبع النفس.الله هوكسواقي ماء في مكان يابس,كظل صخرة عظيمة في أرض معيية(إش32:2).
(هـ)لإنه إله القوة والمجد:لكي أبصر قوتك ومجدك(آية2أ).المرنم في ذاته ضعيف لا يقدر أن يواجه متطلبات الحياة التي تضغطه بضغوط أكبر من طاقته,ويحتاج إلي قوة الرب ومجده.وكان تابوت العهد.فأراد أن يرجع إليه ليحس بحضور إله القوة والمجد.
ونحن اليوم ندرك أن حرمان المؤمن من الوجود بين المؤمنين لا يعني حرمانه من حضور إله المؤمنين معه.كان النبي حزقيال مسبيا في بابل عند نهر خابور,لكنه تمتع بيد الرب الحانية عليه,ورأي رؤي الرب (حز1).وكان يوحنا منفيا في جزيرة بطمس من أجل شهادة المسيح,لكنه كان في الروح,ورأي رؤياه (رؤ1).
(و)لإنه إله القداسة:كما رأيتك في قدسك(آية2ب).أسرت قداسة الله داود كما أسرت إشعياء النبي وهو يسمع السرافيم يهتفون:قدوس!قدوس!قدوس!رب الجنود,مجده ملء كل الأرضفقال:ويل لي لأني هلكت,لأني إنسان نجس الشفتين وساكن أنا بين شعب نجس الشفتين,لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود(إش6:3, 5).وفي إحساس داود بخطاياه اشتاق إلي لمسة من الله القدوس في بيته المقدس تطهر حياته وتنقي قلبه.
(ز) لإنه إله الرحمة:لإن رحمتك أفضل من الحياة(آية3أ).أراد المرنم أن يبصر قوة الله ومجده في هيكله المقدس,لكن الذي يمنحه الحماية هو الرحمة الإلهية.عندما طلب موسي أن يري مجد الله أراه الله جودته(خر33:18-20).
ورحمة الله هي أفضل من الحياة التي هي أعز شئ علي الإنسان,لأنه بدون الرحمة تكون الحياة قفرا بل موتا أكيدا!لقد كانت حياة المرنم مهددة,ولكن الخطر تلاشي عندما أظهر الله له رحمته.