نتابع التأمل في مزمور39 الذي بدأه المرنم بقوله إنه عزم ألا يتكلم في وقت مصاعبه,ولكنه شعر أن صمته مؤلم للغاية,فزاده سكوته ألما حتي لم يعد يحتمل,فتكلم ليفرج عن نفسه ويستريح.فنطق صلاة طلب فيها من الله أن يريه زوال حياته,فيترك التذمر ويخضع لإرادة الرب,كما قال موسي:إحصاء أيامنا هكذا علمنا,فنؤتي قلب حكمة(مز90:12).
1-طلب أن يعرف كم حايته زائلة:عرفني يارب نهايتي ومقدار أيامي كم هي,فأعلم كيف أنا زائل(آية4).كان المرنم متعبا من حياته,ولم يتوقع أن يجد فيها خيرا,وشعر أنها زائلة وأنالكل باطل وقبض الريح,ولا منفعة تحت الشمس(جا2:11)فطلب أن يعرف عدد الأيام التي بقيت له في هذه الحياة الشقية,التي لن يجد راحته منها إلا بالموت,وكأنه الموت هو المنقذ,كما قال أيوبأن يرضي الله بأن يسحقني…ليتك تواريني في الهاوية(أي6:9 و14:13).
2-وأعلن أن الحياة قصيرة:هوذا جعلت أيامي أشبارا,وعمري كلا شئ قدامك.إنما نفخة كل إنسان قد جعل(آية5).كان الشبر أصغر وحدة قياس,والمرنم يري حياته أشبارا,كما قال يعقوب:أيام سني غربتي مئة وثلاثون سنة قليلة وردية(تك47:9).وقال أيوب:مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعبا يخرج كالزهر ثم ينحسم,ويبرح كالظل ولا يقف(أي 14:1, 2).لأنه ما هي حياتكم؟إنها بخار يظهر قليلا ثم يضمحل(يع4:14).إن حياتنا قصيرة بالنسبة لما نريد أن نحققه وننجزه فيها,وبالنسبة لما نريد أن نخدم به الله والأسرة والناس,وبالنسبة لتنمية مقدراتنا ومواهبنا.ولكن هناك جانبا آخر لحياة المؤمن هي أنها أبدية مع المسيحلأنه هكذا أحب الله العالم حتي بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية(يو3:16).
3-وأعلن أن الحياة باطلة:إنما كخيال يتمشي الإنسان.إنما باطلا يضجون.يذخر ذخائر ولا يدري من يضمها(آية6).مع أن حياة الإنسان قصيرة ونهايتها مجهولة,وهي نفخة وخيال,إلا أنه يضج,وإن كان ضجيجه باطلا.إنه كالغني الغبي الذي قيل له:هذه الليلة تطلب نفسك منك,فهذه التي أعددتها لمن تكون؟(لو12:20).كان هناك مليونير فرنسي اسمهفوسكووضع ثروته كلها في بدروم المنزل,وصنع له بابا ينغلق من ذاته.وكان بين آن وآخر ينزل ليزور ثروته الكبيرة في البدروم.وذات يوم نزل وانغلق الباب عليه,وعجز عن فتحه.ولم يعرف أهله أين هو,لأنه لم يخبر أحدا بمكان الكنز,فمات بين كنوزه.وبيع البيت.وبعد سنوات طويلة قرر المشتري الجديد أن يهدمه ليقيم بيتا جديدا.وعندما بدأ حفر الأساسات وجد عظيم فوسكو,وكان الشمعدان بجواره وقد قضم جزءا من الشمعة لعله يشبع جوعه.كانت كل كنوزه باقية في مكانها,فصارت من نصيب المشتري الجديد!يدخر ذخائر ولا يدري من يضمها!ولو أن للثروة بعدا آخر,هو أن نصنع بها منازل أبدية لأنفسنا,عندما نعطي منها العشور,فيمتد عمل الله ويجد الفقراء ما يحتاجونه(لو16:9).
وسرعان ما أدركته نعمة الله,فجعلته يري أملا في ألمه(مزمور39:7-9) فأدرك أن حياة الإنسان نفخة وخيال,وأن ثروته باطلة ولا يدري من يضمها بعده,فأخذ الاتجاه السليم من الرب,حيث الأمل والدوام.
1-حدث الرب حديث الراجي:والآن ماذا انتظر يارب؟رجائي فيك هو(آية7)لقد وصل إلي نهاية مطاف التفكير الأرضي,ورأي الطريق مسدودا,فتساءل:والآن؟!ماذا انتظرت يارب؟هذه صرخة يأس,لابد أن تنتهي بإشراف نور الله علي المؤمن,فيهتفرجائي فيك هو!.يضمنا الرب عندما يتركنا الأب والأم(مز27:10) ويقول:لا أهملك ولا أتركك(عب13:5).وعلي هذا ألقي المرنم نفسه في أحضان الله مستسلما بين يديه المحبتين.صحيح أنه شكا من الله.مصدر آماله طالبا منه أن يرفع آلامه عنه!هذا ما عمله بطرس لما أنكر سيده,ولم ييأس من رحمة الله,بل بكي بكاء مرا,فربح حياته الأبدية,وأعاد المسيح له مكانته الخاصة وأعطاه مسئولية رعاية غنمه (يو21:15-17).وهذا بعكس ما فعله يهوذا الإسخريوطي الذي خان سيده,وفقد رجاءه في رحمة الله,فمضي وشنق نفسه(مت27:5).
نحتاج في وقت حزننا وألمنا أن نمتلئ بالرجاء الواثق في الرب.يشتكي مؤمنون كثيرون من الله,ولكن لو فكروا في البركات الكثيرة التي يمنحها لهم لتأكدوا أنه صالح ومحب.فإذا حدث مرة أن سمح بآلام,فإن سجل معاملاته معنا العامر بالحب,يجعلنا نلجأ إليه في صلاة الواثقين الذين يرجون,لأنكل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله(رو8:28).
2-حدث الرب حديث المعترف:من كل معاصي نجني,لا تجعلني عارا عند الجاهل(آية8).طلب المرنم النجاة من آلامه ومصائبه,ثم طلب طلبا أعمق وهو أن ينجو من معاصيه التي كان يعتقد أنها سبب تلك الآلام,حتي لا يسخر منه الخطاة الجاهلون,فاعترف بخطيته قائلا:من كل معاصي نجنيلأنه يرجو الغفران والقبول والستر أمام الله والناس,ليكون بلا عيب وبلا لوم.ولما يغفر الله لداود معاصيه يتوقف عن معاقبته.فتتوقف آلامه,وتتوقف تعييرات معيريه.وهذا ما عبر عنه الرسول بقوله:يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخر إذا وبخك,لأن الذي يحبه الرب يؤدبه,ويجلد كل ابن يقبله.إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين.فأي ابن لا يؤدبه أبوه!ولكن إن كنتم بلا تأديب,قد صار الجميع شركاء فيه,فأنتم نغول(غير أصلاء)لا بنون.ثم قد كان لنا آباء أجسادنا مؤدبين,وكنا نهابهم.أفلا نخضع بالأولي جدا لأبي الأرواح,فنحيا!لأن أولئك أدبونا أياما قليلة حسب استحسانهم.وأما هذا فلأجل المنفعة لكي نشترك في قداسة(عب12:5-11).
3-حدث الرب حديث التسليم:صمت لا أفتح فمي لأنك أنت فعلت(آية9)صمت المرنم صمت التسليم لله ولمشيئته الصالحة المرضية الكاملة,فكل ما حدث له ومعه هو بترتيب إلهي سابق,أو بسماح إلهي,ترك المرنم الصمت عن الخير الذي حرك آلامه(آية2).وهو صمت الثائر المتذمر,وبدأ صمت الاستسلام بين يدي الأب المحب الحكيم,صاحب الأمر في حياته وفي كل الكون,الذي يخرج أولاده من مآزقهم,ويرشدهم ويقودهم ويعلمهمسبل البر.دائما يفعل,وفعله رائع.يعرف ما لا نعرفه,ويري ما لا نراه.فله التسليملأنك أنت فعلت.وفي هذه الآية نري الإله الصالح صاحب العمل الصالح,ونري المؤمن الصالح الذي يردد مع المسيح:إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها,فلتكن مشيئتك(مت26:42).
وختم المرنم مزموره بصلاة استغاثة بالرب:ارفع عني ضربك.من مهاجمة يدك أنا قد فنيت.بتأديبات إن أدبت الإنسان من أجل إثمه أفنيت مثل العث مشتهاه.إنما كل إنسان نفخة.استمع صلاتي يارب واصغ إلي صراخي.لا تسكت عن دموعي لأني أنا غريب عندك,نزيل مثل جميع آبائي.اقتصر عني فأتبلج(يبدو وجهي ضاحكا)قبل أن أذهب فلا أوجد(آيات10-13).
في هذه الآيات يطلب المرنم الفرج والراحة.وهو يدرك أن الرب لابد يسمع صلاته ويصغي إلي صراخه وفي صلاته يطلب من الرب أن يتوقف عن ضربه,ليستطيع أن يلتقط قبل أن يذهب فلا يوجد فيقول:اقتصر عني فأتبلجبمعني أن تنفرج أساريري ويبدو وجهي مشرقا ضاحكا.
رأينا في الآيات الست الأولي من مزمور39داود المتألم الصامت الذي لم يستطع أن يسكت فتكلم.ورأينا كيف تكلم فلم يكن كلامه حكيما.لكن عندما لجأ إلي الله مصليا,صلي الروح القدس فيه.فجاءت صلاته صلاة الواثق الذي يرجو,فقال:رجائي فيك هو(آية7),وصلاة التائب الذي يعترف,فقال:من كل معاصي نجني(آية8).وصلاة الخاضع الذي يسلم للرب,فقال:صمت لأنك أنت فعلت(آية9).وصلاة المستغيث,فقال:أرفع عني ضربك(آية10).ولابد أن الله ينقذه,كما لابد أن ينقذك إن صرخت إليه في ضيقك.