في المزمور الخامس والثلاثين يصور داود إلهه علي أنه رجل حرب قادما لمعونته,وقد تسلح ليحارب الأعداء دفاعا عن عبده الضعيف,ولعله ذكر ترنيمة موسي: ”الرب رجل الحرب…يمينك يارب معتزة بالقدرة.يمينك يارب تحطم العدو” (خر15:3, 6).ولعله ذكر رئيس جند الرب الذي جاء ليساعد يشوع لينتصر علي أريحا (يش5:13-15).وقد طالب الرب أن يمسك مجنا (وهو الترس الكبير) وترسا,لأن المهاجمات ضده كثيرة,وعند الرب الدفاع الوحيد الناجع.والترس خشبة كبيرة مغلفة بالجلد,تمسك بسير من ورائها,يتلقي بها المحارب السهام الموجهة ضده,فبدل أن يصيب السهم داود يصيب الترس أو المجن لأنه يحتمي به.فالمرنم لا يطلب الخلاص في قاعة محكمة,بل في أرض معركة! وفي هذه الأرض خلاص إلهي,هو موت للشرير وحياة للبار: (آيات4-8).
لما كان الله هو المخلص الوحيد لشعبه يطالبه داود في هذه الآيات أن يجبر أعداءه علي الانسحاب وإعلان الهزيمة,فيتحقق فيهم الوعد الإلهي: ”حتي سبي الجبار يسلب,وغنيمة العاتي تفلت,وأنا أخاصم مخاصمك,وأخلص أولادك,وأطعم ظالميك لحم أنفسهم…فيعلم كل بشر أني أنا الرب مخلصك” (إش49:25, 26) ويطلب أن يستأصلوا كالعصافة (وهي التبن والقش,رمز الضعف والضآلة) أما الريح رمز القوة والقضاء,فينزلقون في ظلام أمام ملاك الرب الحال حول خائفيه وينجيهم,والذي يدحر الأعداء ويطاردهم ويبعدهم,فينتهزمون ويهربون ولا يعودون يهاجمون داود من جديد.وكل من يبتعد عن الله يحقر نفسه فيصير كالعصافة,زهيد القيمة,خفيف الوزن,لا استقرار له ولا سلام ولا هدوء,ويتم فيه القول: ”تزل أقدامهم.إن يوم هلاكهم قريب,والمهيئات لهم مسرعة” (تث32:35).
لقد هاجموا البرئ و”بلا سبب حفروا لنفسي” (آية 7ب).وأخفي عدوه له شبكة يقتنصه بها ليهلكه,فقال: ”لتنشب به الشبكة التي أخفاها,وفي التهلكة نفسها ليقع” (آية8).ويتفق المرنم والنبي القائل: ”هل يجازي عن خير بشر؟ لأنهم حفروا حفرة لنفسي.أذكر وقوفي أمامك لأتكلم عنهم بالخير,لأرد غضبك عنهم” (إر18:20).فإن ”الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضا” (غل6:7).
وهنا يعلن المرنم فرحه بخلاص الله,فيهتف: ”أما نفسي فتفرح بالرب وتبتهج بخلاصه.جميع عظامي تقول:يارب,من مثلك المنقذ المسكين ممن هو أقوي منه,والفقير البائس من سالبه؟” (آيتا9, 10).
كل صلاة مستجابة يجب أن تجعل قلوبنا تفيض بالشكر والفرح بخلاص الرب,الذي ليس مثله في رحمته وقوته وهو ينقذ المسكين من ظالمه.إن خلاص المسيح خبر طيب يسمن العظام (أم15:30) ويشجع المؤمن أن يتكل علي الرب فيسمن (أم 28:25) وهو يقول: ”من هو إله مثلك غافر الإثم وصافح عن الذنب لبقية ميراثه؟لا يحفظ إلي الأبد غضبه,فإنه يسر بالرأفة” (مي7:18).
في بداية الحديث عن الله المخلص صرخ المظلوم,يطلب من الله أن يحاكم مخاصميه,ويقاتل مقاتليه,ويتبني قضيته ويدافع عنه.وأنهي هذا الحديث بالشكر لله: ”أما نفسي فتفرح بالرب وتبتهج بخلاصه”.استمع الله واستجاب وتبني القضية,ودافع ونصر,فله الشكر الممتزج بالفرح.وهذا ما سيحدث في نهاية العالم,إذ يقول الرائي: ”سمعت صوتا عظيما من جمع كثير في السماء,قائلا:هللويا!!الخلاص والمجد والكرامة والقدرة للرب إلهنا,لأن أحكامه حق وعادلة,إذ قد دان الزانية العظيمة التي أفسدت الأرض بزناها,وانتقم لدم عبيده من يدها.وقالوا ثانية:هللويا!ودخانها يصعد إلي أبد الآبدين” (رؤ19:1-3).
وفي المزمور 35 يتحدث المرنم عن الذين شهدوا عليه زورا فيقول: ”شهود زور يقومون,وعما لم أعلم يسألونني” (آية11).اتهموا داود بجرائم لم يسمع عنها,وقالوا أنه يريد إيذاء الملك شاول,مع أنه زوج ابنته وأحد رجال القصر الأمناء (1صم24:9).فعلوا هذا مع أن الله أوصي: ”لا تقبل خبرا كاذبا,ولا تضع يدك مع المنافق لتكون شاهد ظلم” (خر23:1).وقد كرر شهود اليهود الجريمة نفسها مع المسيح,فقد كانوا ”يطلبون شهادة زور علي يسوع لكي يقتلوه,فلم يجدوا.ومع أنه جاء شهود زور كثيرون لم يجدوا,ولكن أخيرا تقدم شاهدا زور” (مت26:59, 60).
ووصف خيانة الأشرار بقوله إنهم جازوا محبته بالبغضة (آيات 12-14).وهو لم يكن يتوقع منهم مثل هذه المعاملة لأنه عمل معهم كل خير,فجازوه عن الخير ”ثكلا” أي إذلالا لنفسه,وهو الأمر الذي تكرر مع المسيح,فقال لليهود: ”أعمالا كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي,بسبب أي عمل منها ترجمونني؟” (يو10:32)..
عندما كان أعداء المرنم يمرضون كان يتذلل أمام الله في الصوم والصلاة لأجلهم وهو يلبس المسوح (وهي ثياب الحزن),ليشفي الرب مرضهم,ويتوبهم إليه.بكي معهم وعليهم وكأنه ينوح علي أمه.ولكن صلاته رجعت إلي حضنه بالبركة عليه,دون أن تحمل لهم أي بركة,لأنهم كانوا يرفضون نعم الله.عندما يطلب المؤمن بركة لغير المؤمن,تستجيب السماء صلاته وتجهز البركة وترسلها.ولكن المرسل إليه يرفض الهدية,ويكتب عليها:يعاد إلي الراسل,مع الشكر(أو مع عدم الشكر!).وهكذا يحرم نفسه من البركة.لكن لابد أن تحصل صلاة المؤمن علي استجابة,وقد رجعت صلاة المرنم عليه بالبركة.أما أعداؤه فلم يستفيدوا منها لأن قلوبهم كانت مغلقة عن نعمة الله.وقد قال المسيح للتلاميذ: ”إن كان البيت مستحقا فليأت سلامكم عليه.ولكن إن لم يكن مستحقا فليرجع سلامكم إليكم” (مت10:13).كم حزن داود علي شاول المريض,وكم عزف له علي العود,وكم صلي لأجله,ولكن شاول الشرير لم يتبارك بصلاة داود…وقد رد الرب سبي أيوب لما صلي من أجل أصحابه,ولم يستفد أصحابه من استجابة صلاته كما استفاد هو!.
وقد زادوا علي شرهم شرا بأن شمتوا به وشتموه: ”ولكنهم في ظلعي عرجي فرحوا واجتمعوا.اجتمعوا علي شاتمين ولم أعلم.مزقوا ولم يكفوا.بين الفجار المجان لأجل كعكة حرقول علي أسانهم” (آيتا15, 16).ربما هاجمة أحد أعدائه وأصابه,فوقع يظلع يعرج فاجتمعوا حوله شامتين شاتمين,يمزقونه ولا يكفون,كأنهم ذئاب مفترسة.ثم أمسكوا سيرته,وضحكوا عليه,وجعلوه موضوع سخريتهم في حفلاتهم,واستأجروا ”الفجار المجان” (وهم المهرجون الماجنون الساخرون) ليسخروا منه,وأعطوهم كعكة كأجر لهم!وكانت العادة أن الذي يقيم وليمة يستأجر هؤلاء البهلوانات ليضحكوا ضيوفه أثناء تناول طعامهم.ويقول داود إن أصدقاءه المحترمين,الذين صام وصلي لأجلهم,وقفوا وسط هؤلاء المهرجين يحرقون عليه أسنانهم غضبا,يريدون أن يفترسوه.