منذ أن أنشأ الإسكندر المقدوني مدينة الإسكندرية وهي مدينة للتنوع الحضاري والتعدد الثقافي. تفتح أحضانها لكل صاحب مذهب وعقيدة بلا تمييز ولا حقد ولا رفض، فالبحر الذي تسكن على حافته كشباك تطل منه على العالم كله أصبح لها عيناً وقلباً وعقلاً منفتحاً.
ويتكون رصيف الشواطئ من رقاقات يونانية وقبطية ويهودية وإسلامية في بوتقة تزيين تاج عروس البحر ولكن – وما ألعن ولكن – تحولت المدينة إلى وكر للأصولية والسلفية وخنق شوك أصحاب الحقيقة المطلقة روح التنوع فيها. ومات البحر بعد أن أقيمت أمامه سدود من حجارة الرجعية والتخلف وأنشئت مقابر لـ قبور الآخر المختلف.
فماذا حدث في الإسكندرية؟
ولماذا أصبح هواؤها مسموماً وبحرها ملغوماً ووجهها محزوناً؟
في كتابه الصادر حديثاً تحت عنوان “ثقافة الدولة الليبرالية” أفرد الدكتور جهاد عودة أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان فصلاً كاملاً حول الوجود السلفي في الإسكندرية رصد فيه مظاهر هذا الوجود من الفكر السلفى
ضد المواطنة
يقول الكاتب الحقيقة إن تيار الدعوة السلفية في الإسكندرية – على الرغم من عدم اهتمامه العام بالسياسة – فإن مواقفهم المتشددة تجاه قضايا كالديموقراطية والحاكمية والمواطنة والتشريع والانتخابات والولاية العامة.. إلخ جعلت منه إشكالية كبيرة من ناحية العلاقة مع السلطة العامة في الدولة والمجتمع.. بعبارة أخرى، هناك انقسام في أجهزة الدولة الأمنية والسياسية بين تفضيل الدعوة السلفية بسبب عدم اهتمامها بالسياسة والحكم واعتبار الدعوة السلفية مضادة لاستهدافات السياسة العامة للفكر الجديد، خاصة بالنسبة لقضايا تعظيم المشاركة في الانتخابات والمواطنة ودور المرأة، فخلال منتصف التسعينيات شنت أجهزة الأمن حملة تم خلالها اعتقال الشيخ عبد الفتاح أبو إدريس مسئول الدعوة السلفية ود. سعيد عبد العظيم، كما تم إيقاف مجلة “صوت الدعوة” وظل هذا التيار يمارس نشاطه حتى عام 2002 حيث تم منعه من ممارسة جميع أنشطته الدعوية. وخلال شهر أبريل 2009 وعلى إثر حملة ضد التيار السلفي تم وقف موقع “صوت السلف” عبر الإنترنت، والذي يشرف عليه الشيخ ياسر برهامي و “أنا السلفي”، الذي يقوم بنشر خطب وتسجيلات دعاة السلفية السكندريين، ويؤشر هذا التضييق من قبل الجهات الأمنية على قلق الدولة حيال الخطاب الدعوي لهذا التيار، ولكن سرعان ما عاد الموقع بقوة أكبر. وتجب الإشارة إلى أن الفضائيات السلفية ساهمت في الترويج للخطاب السلفي، حيث أصبح هؤلاء الدعاة هم الأسس التي تستند عليها هذه القنوات، وقد استفاد الدعاة من هذه القنوات في زيادة مساحة الجماهيرية، واستفادت القنوات منهم في الترويج لنفسها، وتحقيق أرباح كبيرة على حسابهم”.
بين الإخوان والسلفيين
أما بالنسبة للعلاقة بين الخطاب السلفي والإخواني فيقول دكتور جهاد: “فهناك تصوران، أحدهما: أن الخطاب الإخواني يعزز بنائياً الخطاب السلفي، ولا يتناقض معه في الأسس المعرفية من الناحية الإيمانية، وبالتالي يعمل كرصيد سياسي له، والآخر: أن الخطاب الإخواني يتناقض مع الخطاب السلفي من الناحية الحركية، وبالتالي ينتظر دائماً شيوع توجه صراعي بين الخطابين، سواء كان كامناً أو صريحاً. الأرجح في ظني، في إطار التطورات السياسية الأخيرة، أن الدعوتين: السلفية والإخوانية لهما أرضية أكبر في الاهتمامات المشتركة، خاصة في ضوء انتظام الجماعة الإسلامية كجماعة دعوية، وفي ثوبها الجديد فقط، وفرز الإخوان لمرشد جديد ينتمي تاريخياً وعملياً لخلفية سلفية متشددة.
ينبع مسمى الحركة السلفية من المدرسة النجدية ذات الجذور الحنبلية، التي أسسها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، ولكنها أمست تياراً يمتد من المحيط إلى المحيط، فصوتها تجاوز حدود موطنها الأصلي بكثير، حتى امتد التشدد من السياسة والأحزاب الضالة حتى ملاعق الطعام التي كتب فيها الشيخ مقبل– أحد رموز ومؤسسي الحركة في اليمن– رسالة تحت عنوان “الصواعق في تحريم الملاعق”.
ويقدم الدكتور جهاد “محاور المنهج السلفي” تلخيصاً للمحاور التي يقوم عليها المنهج السلفي الجديد في عدة نقاط هي:
أولاً: تضخم الاحتفال بالمندوبات وتضاؤل الاهتمام بالواجبات وفرائض الوقت، ومن ثم حدث انقلاب مدو في فقه مراتب الأعمال، فقد انقلب سلم الأولويات رأساً على عقب، ووقع تضخيم وتقزيم بغير حق، فقد يهتاج المرء (مثلاً) لسماع الموسيقى– رغم اختلاف حكم الفقهاء فيها– ولكن ضميره لا يهتز لجرائم من نوعية شهادة الزور، وتزوير الانتخابات.
ثانياً: حشو العقول بالمتون، وحفظ الشروح، واستيعاب الهوامش، والاستغراق في فقه الفروع، وهذا نتيجة طبيعية لانقلاب سلم الأولويات، مع العلم بأن هذا الاستغراق في الفروع، لا يلبي حاجات الإسلام والمسلمين في العصر الحاضر.
ثالثاً: الضغط على حرية الآخرين، مع إعطاء الذات حق الوصاية على الجميع، فالكل يجب أن “يدين” بالفقة السلفي الحديث وتطبيقاته، من خلال ادعاء الإجماع في أمور الفقه الخلافية، ومن ثم نقلوا معارك الفقه من أرض الجزيرة العربية، إلى أوروبا وأمريكا، فهناك ضمائم رهيبة، ألصقوها بأركان الإسلام الخمسة، منها: الزي العربي وطريقة الأكل، مع تحريم قاطع للموسيقى والتصوير وغير ذلك، وهذا يناقض “قواعد الفقه الإسلامي” التي تنص على أن “الأمر المختلف فيه، لا يدعى إليه” هذا ما قاله الإمام السيوطي في كتابه “الأشباه والنظائر”.
رابعاً: تجزؤ الإسلام، وعدم إحاطته من جميع جوانبه، والخلل في ترتيب الأولويات، وتضخيم أشياء على حساب أخرى لا تقل عنها أهمية. فقد كانت مقاومة الأضرحة والمقامات، وسحق كل من يتوسل بالأولياء ودمغه بالشرك، شيئاً بارزاً في الفكر الوهابي، بل كانت من الأولويات، فقد ضخموا هذه الممارسات واعتبروها فيصلاً بين الحق والباطل والشرك والتوحيد، وهذه الأفكار غذتها المراجع الوهابية، وقد جاء هذا بالتزامن مع فكرة الطاعة المطلقة للإمام في الفكر السياسي السلفي، بغض النظر عن تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة أو الالتزام بالقانون، مع تهميش دور الأمة في عملية الرقابة والإصلاح الاجتماعي أو المعارضة السياسية.
خامساً: الالتباس الحاد في المرجعية ومصادر الشريعة، فالهيام في التاريخ القديم، وتقديس التاريخ والأشخاص، أديا بالضرورة إلى اختلاط مصادر التشريع، مما أدى إلى ظهور حجب كثيفة على القدرة العقلية، وتعطيل النظرة الشاملة والعميقة لحاجاتنا ومشكلاتنا، فالإسراف في تقدير التاريخ والأشخاص، يجعل النتائج مختلة، ويجعل الفكر محملاً بالمغالاة والشطط. إن الخلط بين الوحي والأشخاص في المرجعية، لا يقول به عالم، فهو يؤدي إلى داء التجسيد، أي تجسيد المبادئ في أشخاص، والأشخاص– وإن علوا- غير معصومين، لأنهم بشر، يجري عليهم– في اجتهادهم وعلمهم– تجربة الصواب والخطأ.
سادساً: الإلحاح على النسك والشعائر مع تهوين أمور الدنيا والسيادة فيها، حتى بدت الدنيا كأنها تعبير عن الفتنة، فالدين ضد الدنيا، ومن يعمل للدين لا يعمل للدنيا، ومن يعمل للدنيا لا يعمل للدين!!
سابعاً: تعطيل عمل العقل خوفاً على الوحي، فالعقل والوحي خصمان متغاليان، نعم لا اجتهاد مع النص، ولكن هناك “اجتهاداً في النص”.
14- 11 – 2011
إ س