شيعت الخميس الماضي بكنيسة ##تسليكون## بمدينة زيورخ بسويسرا جنازة المهندس عدلي أبادير يوسف عميد أقباط المهجر الذي وافته المنية الخميس 31 ديسمبر 2009 وسط حالة من الحزن والألم لرحيل شخصية قدمت وأعطت الكثير, ودعت القلوب من مختلف دول العالم جثمان الفقيد إلي مثواه الأخير وسط آهات وذكريات لم ولن تنسي تلك اللحظات الذي يذكر فيها اسم عميد أقباط المهجر والأب الروحي الذي كان يحمل من الصفات والأعمال الكثير. ##وطني## تنعي الفقيد الذي يمثل واحدا من الرعيل الأول لتأسيس الجريدة.. وفي هذا الملف نرصد ومواقف من حياة الراحل في مصر وبالخارج ونكشف تفاصيل تنشر للمرة الأولي عن حياته, كما نعرض كلمات وأحاديث لشخصيات وأصدقاء وشهود عيان من مختلف أنحاء العالم لمن عايشوا ولمسوا مواقف في حياة العميد, وأكدوا علي مشاركتهم في نعيه في هذا الملف تكريما وعرفانا لشخص حقق نجاحات عديده علي المستوي العملي الشخصي والوطني والدولي.
في المنيا.. بدأت حياته
عدلي أبادير يوسف نعمان اسمه بالكامل من مواليد 1920, ينحدر من أسرة صعيدية كبيرة فهو ابن المستشار أبادير باشا أحد القضاة المعروفين في عصره, ووالدته السيدة سنية كيرلس حزين حفيدة كيرلس باشا أحد باشوات مركز ديرمواس بمحافظة المنيا, وصاحب إقطاعية واسعة, وكانت عائلتها وشقيقها حشمت باشا من الوطنيين الذين ساهموا في مقاومة الاحتلال الإنجليزي آنذاك.
وأنجب أبادير باشا أربعة أبناء هم أنور وعدلي وماهر وابنة هي برتا أبادير, وكان أبادير باشا يعيش بقرية شرموخ التابعة لمركز ملوي حتي تزوج بالسيدة سنية فقام ببناء قصر كبير بإقطاعية مجاورة للقرية سميت بعزبة ##أبادير## ترعرع فيها أبناؤه وبعدها انتقل الأبناء للدراسة والتعليم بالقاهرة حيث حصل عدلي أبادير علي بكالوريوس الهندسة جامعة القاهرة في يونية 1941م وعمل خلال عامي 1941 و1942 م.
انتقلت## وطني## إلي محافظة المنيا لرصد وتوثيق نشأة الراحل حيث تلقي أهل بلدته من المسلمين والأقباط نبأ وفاته بحزن شديد لما يكنون له من حب وفخر داخل قلوبهم وكانت البداية من مركز ديرمواس حيث كانت والدته تعيش في قصر والدها كيرلس باشا مع شقيقها الوحيد حشمت باشا الذي كانت له دائرة تسمي باسمه.
كان من الصعوبة العثور علي أشخاص عايشوا فترة خاله ووالدته نظرا لوفاة من يناظرونهما في العمر ولكن بعد التقصي علمنا بوجود شخص يدعي موسي روفائيل كان وكيل دائرتهم آنذاك فتوجهنا إليه حيث يقطن بأحد شوارع دير مواس واستقبلنا بحفاوة وحب يحمله من الزمن الجميل.
كان موسي من مواليد 1928 وعمل طوال حياته مع حشمت باشا وتقابل مع الراحل بقصره, ورغم أنه فقد بصره مؤخرا ويكاد يسمع بصعوبة إلا أن ذاكرته لم تهتز لشيخوخته ففي بداية حديثه أشاد بـ##وطني## وتحدث عن ذكريات ومقابلات له مع الراحل أنطون سيدهم ثم أبدي حزنه لوفاة العميد وهو يقول ##عدلي بيه كان رجلا والرجال قليلون ## ثم بدأ يحكي تاريخ العائلة:
حشمت باشا من مواليد 1902 وكان يتعلم بالقاهرة ولكن بعد وفاة والده كيرلس باشا عام 1919 عاد ليباشر أعماله حيث كان يملك وشقيقته سنية أكثر من 700 فدان وكانت دائرته تسمي باسمه ويقطن بقصره الذي مازال قائما حتي الآن ثم تبرع به عدلي بيه لمطرانية ديرمواس.
وعرفت عائلة حشمت عام 1938 حيث كنت أقوم بأعمال شراء وبيع المحاصيل وهي عائلة كريمة وكانت علاقاتهم طيبة بالمسئولين وعطفهم واضح علي جميع الفقراء مسلمين وأقباط مثل شأن المسيحيين في عهدهم, وكان حشمت من الأشخاص المتواضعين المحبين للجميع ودائما ما كان يقيم حفلا كبيرا في الأعياد يدعو له مسئولي الدولة, وعندما قامت ثورة يوليو 1952 تم اقتطاع جزء من أرضه بعد أن قام بإعطاء ميراث لشقيقته سنية وبناته السيدة هدي والسيدة سميرة.
أضاف حامل الذكريات موسي روفائيل: ##كانت سنية هانم شريكة أساسية وعلاقتها قوية بشقيقها وكانت ذات كرم وسخاء كبير فعندما كانت تأتي لدير مواس بعد زواجها من أبادير باشا كانت تقدم المعونة للفقراء بسخاء قبل أن تدخل القصر حيث كان هناك العديد من الأسر الفقيرة أمام القصر فتخرج من حقيبتها مالا وتقدم لهم ما يكفيهم طوال العام وكانت ما تخرجه آنذاك يمثل رأس مال أكبر تجار المدينة!
وعدلي بيه لا يختلف عن والدته في الكرم والوفاء حيث تقابلت معه بقصرهم بعزبة أبادير مرتين لأنه كان يزور العزبة كل ثلاثة شهور نظرا لارتباطه بأعماله بشركة ناسيتا آنذاك وزواجه بالسيده ثريا كريمة بباوي باشا أحد أعيان مركز سمالوط وأنجب ثلاثة أبناء هم شهيرة وماجدة وشريف.
لم يستمر عدلي بيه كثيرا بمصر بعد تعرضه للاتهام ظلما في قضية ملفقة في الثمانينيات ولم يعد بعدها وتولي متابعة أعماله بمصر شقيقه الدكتور ماهر أبادير, فهاجر عدلي بيه لسويسرا لكن قلبه كان مع مصر يشعر بمشاعرها ويمد يد العون لكل محتاج فكم من أسر كان يعولها دون أن يعلن عن ذلك آخذا بكلام الكتاب المقدس: فأبوك الذي يري في الخفاء هو يجازيك علانية وكل ما أقوله حزنا علي هذا الرجل أن عدلي بيه يمتاز بالوفاء والأمانة لمصر وللأقباط فرغم هجرته إلا أنه عاش بقلبه وفكره لوطنه فهو مصري صعيدي لم تنسه سويسرا أو المال والمناصب حبه لمصر وعطاءه للمحتاجين فرحمة الله عليه.
وفي شرموخ
تركنا عم موسي روفائيل بكل ما قدمه من حكايات طويلة عن عائلة حشمت وأبادير باشا وركبنا سيارة إلي قرية ##شرموخ## مسقط رأس المهندس عدلي أبادير وعند نزولنا أوقفنا شخصا لنسأله عن قصر أبادير باشا فأشار إلي وسط القرية وتوقفنا لالتقاط بعض الصور للقصر وتقابلنا مع الحاج مصطفي شرموخ شقيق عمدة القرية الذي قال لنا:
أبادير باشا نشأ بهذه القرية قبل أن يتزوج من عائلة حشمت باشا وأنشأ عزبة أبادير التابعة لقريتنا ولا يعيش الآن بقريتتنا أقارب للراحل سوي المهندس راتب وديع عقيل نعمان ابن العمومة ومنير الخشت قريب من الدرجة الرابعة لوالدة الراحل وهناك ابنة شقيقته الدكتور ليلي التي تملك منزلا بالقرية وتأتي من القاهرة من حين لآخر حيث قامت منذ 15 عاما بإنشاء جمعية شرموخ للتنمية المحلية وكانت تقوم ببعض أعمال التنمية منذ سنوات.
كانت ساعات الليل اقتربت عند حديثنا فقام الحاج مصطفي باصطحابنا بسيارته إلي عزبة ##أبادير## التي تبعد عن قريتهم مسافة 3 كم وعند وصولنا شاهدنا قصر الراحل الشامخ بالعمارة والطراز المتميزين وهو مقام علي مساحة ثلاثة أفدنة ويحيط به سور طويل فقمنا بالتجول حول القصر المغلق الذي آلت ملكيته لشخص آخر والتقطنا بعض الصور والتف حولنا بعض أبناء المزارعين وخفر كان يعمل أجدادهم بأراضي عائلة ابادير وتحدث بعضهم عن مواقف كانوا يسمعونها من آبائهم عن المهندس عدلي الذي كان يغدق بعطفه وكرمه عليهم دون تمييز.
العمدة أحمد: حبه لمصر يستوعب الكثير
عدنا مرة أخري إلي قرية شرموخ حيث اصطحبنا شقيق العمده إلي ##دار العمدة الكبير وسط القرية## والتقينا به وعندما علم بوفاة م. عدلي أصابه الذهول ومشاعر الألم وهو يقول ##ده خسارة كبيرة##.
جلسنا مع العمدة أحمد محمد يوسف شرموخ ليروي لنا تفاصيل عن حياة الراحل سمعها من والده وكان الصديق الحميم للمهندس عدلي قال:
كنت أسمع من والدي وعمي العمدة عن المستشار أبادير باشا حيث كان من القضاة القلائل في مصر وعاش في قريتنا قبل أن ينتقل لعزبتهم التابعة لقريتنا ويبني قصره وقطنت حوله 25 أسرة مسلمة ومسيحية كان يرعاهم دائما وكانت لعدلي بيه علاقة قوية بوالدي منذ الشباب وكان خيره علي القرية رغم عدم تواجده باستمرار حيث كان يتردد من حين لآخر, وكان والدي يذهب له في فيلته بشارع عمر بن الخطاب بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة, المرحوم شخص محبوب وابن بلد ونحن هنا في قريتنا افتقدناه لأننا كنا في أمس الحاجة إليه, وأتذكر أنني توجهت له برسالة بإحدي الصحف منذ سنوات وقلت له ##أبناء بلدك في شرموخ في احتياج إليك## ولو كان عدلي بيه عاش بمصر ما بقي شاب واحد عاطلا في قريته لأن إمكانياته وعقليته وحبه لمصر يستوعب الكثير فهو صورة مشرفة نفخر به نحن أبناء قريته.
أضاف العمد أحمد: مصر خسرت هذا الرجل عندما زج به في قضية هو في غني عنها لأن هذا الرجل ليس في حاجة لرشوة كما تم اتهامه فهو من أغني أغنياء مصر ولولا هذه القضية لنجح في إنشاء مشروع مصنع الورق بقوص وساهم في تنمية أبناء الصعيد وتغير مسارهم ونحن كنا متعاطفين معه لأننا نعلم أنه من الشرفاء فهذه القضية الملفقة لم تكن خسارة لعدلي بيه بقدر خسارة لنا ولمصر ويكفي أن أقول إنه حتي هذا اليوم من فترة الثمانينيات لم تنجح مصر في إنشاء هذا المصنع الذي كان ينوي إقامته الراحل وما أقوله ##خسارتنا فادحة في وفاته وكل من لم تعامل معه يحزن عليه لأنه فخر لمصر##.
تركنا العمدة وهو يقول: كنت أتمني أن يدفن الراحل بمصر وذهبنا لقصر راتب وديع ##46 عاما## قريب العمومة للمهندس عدلي أبادير والتقينا أيضا منير جرجس جرجس## ##75 عاما## وهو قريب من الدرجة الرابعة حيث عبر كل منهما عن الحزن لوفاة الراحل وقالا إنهما لم يعايشا الراحل لأنه عاش حياته بالخارج ولكنهما يعلمان بحياته من خلال الآباء وأنه كان صاحب شركة ناسيتا التي أنشأها عام 1944 وتضرر من قرارات عبدالناصر فسافر إلي الخارج نهاية الخمسينيات ثم عاد للقاهرة في أول السبعينيات قبل أن يعود للسفر مرة أخري لسويسرا بعد قضيه عام 1986 ولم يعد بعدها لمصر.