” الوصلة” حل سحرى وعبقرى نجح فى فك كل معادلات ولوغاريتمات تشفير القنوات الفضائية بكل بساطة، أطلق عليها المصريون بسخرية شديدة “الفتلة” ربما لأنها “رتقت” بطريقة تتسق تماما مع الفهلوة المصرية الثوب البالى لإعلامنا.
وبعد أن ورثت قنوات الجزيرة حق بث كأس العالم 2010 فى منطقة المحمية الطبيعية – الوطن العربى سابقا- حملت “الفتلة” على أكتافها تحقيق حلم مشاهدة المباريات رغما عن الجزيرة، وأولى الأمر فى التليفزيون المصرى، وباتت 20 جنيها شهريا كافية لمشاهدة 46 فضائية منها 20 قناة على الأقل مشفرة، ويكمل رقم 20 السلسلة، لأن وزارة الإعلام قررت فجأة دفع مبلغ 20 مليون دولار أمريكى وحصلت على حق بث 22 مباراة متنوعة من البطولة.
ويرى فتحى الجيزاوى صاحب أحد المقاهى بالعمرانية الشرقية أن كرة القدم بالنسبة للشعب المصرى بمثابة أكسير الحياة قد لايهتم المصرى بأى شىء وقد لا يحرص على متابعة أى حدث إلا منافسات الساحرة المستديرة، سواء محليا أو عالميا.
تدرك الحكومة مدى شغف الشعب باللعبة الشعبية الأولى فى العالم، وترى أيضا أن السعادة التى تسببها كرة القدم كافية لنسيان أو تناسى الشعب لمشاكله وهمومه، فغضت البصر عن الوصلات التى انتشرت فى كل بقاع مصر لأنها بكل بساطة مهنة فى زمن البطالة، وأيضا تمنح عدد كبير من الشعب فرصة امتلاك عدد من القنوات المحروم منها فضلا عن أنها تستخدم فى المقاهى ببعض الأحياء الشعبية لجذب الزبائن لمشاهدة الحدث العالمى، كما أن قيام الحكومة بالتعاقد على بث بعض المباريات على القنوات المصرية الأرضية أعطى الشعب فرصة لمتابعة بعض اللقاءات عبر القنوات الأرضية، ويرى أحد الخبراء الإعلاميين أن تأخر التليفزيون المصرى عن الدخول فى المناقصات الدولية الخاصة بنقل البطولات العالمية المختلفة يحمل خزينة الدولة الكثير من الخسائر المادية، لأن الحكومة تشترى حق البث فيما بعد بأسعار مرتفعة جدا، مؤكدا أن إعلامنا لايزال يعيش فى زمن الريادة و”عنجهية” مصر أم الدنيا، ويقف عند التعامل بأسلوب القطاع العام فى زمن تفرض فيه السوق شروطها على الجميع، وعلى من يريد التواجد فى الساحة الإعلامية أولا إجادة قواعد اللعبة وتنمية مهاراته المهنية والتنافسية.
وبعد أن فقد منتخب مصر فرص المشاركة فى كأس العالم الأخيرة بجنوب أفريقيا حدد المصريون أهدافهم من البطولة مابين متعة المشاهدة فقط أو تشجيع فريق بديل لمصر فى البطولة، وكالعادة هناك “تعاقد بالعشق” طويل الأمد بين معظم المصريين والبرازيل.
وحسبما يؤكد عمر منصور طالب جامعى أن أداء فريق السامبا يجعله يستمتع باللعب والمشاهدة، موضحا أن انتمائه الكروى أبا عن جد برازيلى حتى النخاع.
أما فريق التانجو – اسم الشهرة لفريق الأرجنتين- له جمهوره المتيم بأداء الفريق منذ ظهور الساحر ماردونا فى ثمانينيات القرن الماضى وقيادته للفريق القادم من أمريكا الجنوبية للفوز بلقب المونديال فى بطولة عام 1986 بالمكسيك، الذى أطلق عليه النقاد وقتها فرقة مارادونا للألعاب الكروية، ويرى عدد غير قليل من محبى اللعبة فى مصر أن ديجو أرماندو مارادونا بطل شعبى، وأنه قادم من دولة ومجتمع فقير مثلهم فعشقوه وتوجوه زعيما لكرة القدم العالمية على مدار التاريخ .
وشهد توالى المباربات مواقف تستحق الرصد، فعلى عكس التصريحات الرسمية للدولة المتعاطفة مع الجزائر- على اعتبار أنها شقيقة عربية – التى وضحت فى التأكيدات حول الأخوة والعلاقات الوطيدة بين البلدين من قبل طاهر أبو زيد نجم مصر والنادى الأهلى الأسبق وضيوفه فى برنامج استاد النيل الذى نقل الـ22 مباراة- المنحة الحكومية – شجع الغالبية العظمى من المصريين كل منافسى ومحاربى الصحراء- لقب فريق الجزائر- وكان تعصب المشاهد المصرى لفريقى إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية ضد الجزائر لافت للنظر جدا لدرجة أن الشخص الجالس بجوارى على مقهى بوسط القاهرة قال: ” أنا لازم أشجع أمريكا الشقيقة بتاعة المعونة”، وعند إحراز الفريق الأمريكى هدف الفوز فى الوقت القاتل من اللقاء صرخ كل الحضور فرحا وتهليلا وشماتة لهزيمة الجزائر، بالرغم من أن التعادل كان كافيا لإطاحة الفريقين خارج البطولة.
والخلاف الكروى بين المصريين والجزائرين قديم ومتوارث ويسبق لقاء أم درمان المؤهل لبطولة 2010الذى جمع الفريقين، بأكثر من عقدين، ويقول رفعت فؤاد محامى إنه لن يستطيع أن ينسى مافعله الجزائريون بالمصريين فى كل لقائتهم معنا منذ دورة الألعاب الأفريقية بليبا عام 1978 حتى موقعة أم درمان الأخيرة فى مطلع العام الجارى، مشددا أنه لا يستطيع أن يقنع نفسه بتشجعيهم تحت بند الدولة الشقيقة أو القومية العربية.
والتف فصيل كبير أمام شاشات التليفزوين تأيديا للفرق الأفريقية الأخرى، وأن صدمتهم النتائج المخزية لمعظم فرق القارة السمراء، باستثناء غانا التى جذبت الجماهير حولها، ووصلت أحلام بعض المصريين إلى حد فوز فريق “النجوم السوداء” بكأس العالم، فغانا كما يرى البعض الممثل الحقيقى للفقراء فى البطولة، وخلال مباراتها أمام الولايات المتحدة الأمريكية فى دور الستة عشر للبطولة شجع المصريون غانا بجنون شديد، ونسى الناس أنهم منذ أيام قالوا عن الفريق الآخر أمريكا الشقيقة، وتذكروا جانبان الأول أننا وغانا ننتمى لنفس القارة، وأن أمريكا دولة استعمارية وتدعم اسرائيل وتضطهد الإسلام، وأتذكر مشهد رجل كان يجلس أمام شاشة التليفزيون مباشرة على مقهى بالعمرانية كان يصرخ مع كل هجمة لأمريكا قائلا :” أنا مش عايز أى أمريكانى يعدى”.
وبعد خروج البرازيل والأرجنتين- فرسى الرهان حسبما يرى المصريين- من البطولة تفرق التشجيع المصرى للبطولة بين ألمانيا وهولندة وإسبانيا، وأكثر مالفت نظرى هو رأى سيدتين الأولى قالت إنها تتمنى فوز إسبانيا بسبب حارس مرماها وقائد الفريق “إيكر كاسياس”، مشيرة إلى أن ابنها أخبرها أن الحارس الإسبانى بعد فوز بلاده بكأس الأمم الأوربية 2008 طالب المسئولين الإسبان بإطلاق اسم أمه على أحد شوارع العاصمة الإسبانية مدريد، أما الثانية تشجع فريق أورجواى بعدما قرأت فى إحدى الصحف أن مهاجم الفريق ” ديجو فورلان” بعد انتقاله من إحدى الفرق فى بلاده إلى فريق مانشستر يونايتد الإنجليزى عبر عن سعادته الشديدة لأنه سيحصل على أموال طائلة بموجب الانتقال ستمكنه من علاج شقيقته القعيدة.
واختلط التشجيع كثيرا بالوازع الدينى، فهناك من شجع إسبانيا على أساس أنها الأندلس “الحلم الغابر”، وهناك من شجع غانا لأن بين لاعبيها أكثر من لاعب مسلم مثل على مونتارى, وأسامواه، وكذا فرنسا، وتسائل بعض المشجعين لماذا لا يسجد اللاعبين المسلمين بعد إحراز الأهداف؟، وفى السياق ذاته شجع المسيحيين فريق الأرجنتين لقيام مارادونا المدير الفنى للفريق بعمل إشارة الصليب قبل المباراة، وكذا فريق المكسيك بعد أن علموا عن طريق وسائل الإعلام أن بعثتهم فى جنوب أفريقيا طالبت بمنحهم حجرة يحولنها إلى كنيسة – وكأن مصر ينقصها تديين كرة القدم – والطريف أن الفرق الأربع الأخيرة خرجت من البطولة دون تحقيق مراكز شرفية، بل أن الفريق الفرنسى بطل عام 1998 ووصيف عام 2006 خرج من البطولة بشكل دون تحقيق فوز واحد، ولم يحرز إلا هدفا يتيما.
ويبدو أن البحث عن بطل بديل ينجح فى تحقيق انتصار فشل فيه فريقك كان الشعور الغالب لمعظم المصريين، لأن الشعوب التى تشعر بالظلم والقهر تحلم بنصر حتى لو كان هامشيا، وغير مهم على المستوى المادى، لكنه يحقق طفرة معنوية ويعطى إحساس بقوة وهمية.
وطبقا لإحساس معظم المصريين بأن الغرب يضطهد الإسلام وينصر إسرائيل على الفلسطينيين، كانت الرغبة فى فوز فرق الدول الإسلامية، أو الفرق التى تضم بين صفوفها عددا من اللاعبين المسلمين، للأخذ بالثأرمن الدول الاستعمارية أو الكافرة والمشركة، وينطبق المثل ذاته على من يناصر الدول الغربية، فالمسيحى الذى يشعر بالاضطهاد فى وطنه من المنطقى أن يبحث عن انتصار يحققه من ينتمى لدينه.
أما عن تشجيع المصريين للولايات المتحدة الأمريكية ضد الجزائر يعود إلى الشعور أن الجزائر وصلت للنهائيات دون وجة حق، وأيضا عن طريق الظلم والبلطجة.
وانفض المولد وفاز بالكأس من يستحق، واستعاض المشجع المصرى عن غياب فريق الفراعنة عن المونديال بتشجيع البديل حقق له أحيانا نصرا معنويا وأحيانا أخرى أعادته هزيمة البطل البديل إلى همومه ومشاكله، هناك من شاهد بعض المباريات عن طريق منحة الحكومة على القنوات الأرضية، وهناك من تابع كل أحداث البطولة عبر الوصلة أو “الفلتة”، كما يحلو للبعض تسميتها، انفض المولد وفازت دولة أوربية بالبطولة دولة مع الأسف لها تاريخ استعمارى، ولكن لها حاضر ومستقبل ملىء بالشافية واحترام العلم وحقوق الإنسان والمساواة فى الحقوق والواجبات بصرف النظر عن اللون والعرق والدين، دولة لا يبحث مواطنوها أبدا عن بطل بديل.
————–
12-7-2010
————–
12-7-2010