انفجرت قضية النوبة المصرية, و قبلها سيناء, و ما بينهما الأقباط, و لمن لا يدري لا يزال ملف البهائيين مفتوحا, وفي الطريق ملفات أخري مثل الشيعة و أمازيغ الواحات و غيرهم, النسيج يتهتك, وعوامل الاندماج القومي تتفكك منذ عصر مبارك, ورياح الحرية التي واكبت ثورة 25 يناير كشفت الغطاء عن كل المسكوت عنه, و لم يعد صاحب حق قادر علي السكوت أو التأجيل, و لكن سرعة تجاوب رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف مع مطالب النوبيين المعتصمين استطاعت أن تنزع فتيل الأزمة و تؤجل الصدام لأجل غير مسمي .
قبل أن نتوقف أمام هموم المواطنين المصريين النوبيين كأقلية ثقافية , علينا أن نلفت الانتباه إلي أن مصطلح ## أقلية ## ليس عورة , بل هو مصطلح علمي يرتكز علي معيار عددي, فحينما نقول إن الأقباط أقلية نعني أن الأغلبية مسلمة, وعندما نقول إن الشيعة أقلية فلأن السنة هم الأغلبية و هكذا… ولذلك مصطلح أقلية لا يجب قياسه بمنطق أخلاقي.
المواطنون المصريون النوبيون من أقدم سكان مصر, و منذ تأسيس الدولة الحديثة علي يد محمد علي… تطلع الحاكم الجديد لإخضاع النوبة والسودان لمصر, فدخلت النوبة و كردفان في حوزة مصر , و لأهمية النوبة قام محمد علي بنفسه بقيادة الجيش المتجه للنوبة , و ذلك لأن محمد علي أدرك شجاعة و صبر و طاعة الجندي النوبي فأراد تجنيدهم القسري في الجيش المصري الوليد ,فضلا عن أطماعه في امتلاك ثروات الإقليم خاصة الذهب ,و كانت الحملة 1815 وبعدها 1889 , و موقعة توشكي عندما اشتعلت الثورة المهدية و تم إخضاع الثوار و هزيمتهم علي يد الجيش المصري , و انتهت الأمور بالاتفاق الثنائي بين الحكومتين المصرية و الإنجليزية من 19 يناير 1889 , وهو الاتفاق الذي أضر بوحدة مصر و السودان معا , حيث انفردت إنجلترا في الواقع بحكم السودان لتستغل مصادر الثروة فيه لمصالحها الذاتية , و قد أضر الاتفاق كذلك بوحدة بلاد النوبة السياسية , و قسمتها إلي قسمين رئيسين : النوبة السودانية : النوبة العليا و تمتد داخل السودان , و النوبة السفلي و هي النوبة المصرية و تمتد من الحدودالسودانية حتي أسوان بالرغم من أن النوبة بتسمتيها كان تمثل وحدة جغرافية متميزة يسكنها شعب متماثل عرقيا و ثقافيا و اجتماعيا .
هذه اللمحة التاريخية أهميتها تكمن في أن محمد علي أنشأ في ذات الحقبة محافظة العريش 1810 لرغبته في التوسع شمالا لإخضاع غزة و فلسطين ومن ثم أسس رؤية عسكرية لحكم المركز في القاهرة للأطراف سواء الشمالية في سيناء أو الجنوبية في النوبة لكييضم فلسطين و السودان لمصر , و ما زالت هذه الرؤية العسكرية تحكم تصرفات الحكام المصريين طوال ما يقارب القرنين من الزمان (1810-2011) و كما يقول الجنرال و المفكر عادل سليمان فأن الرؤية العسكرية تعتبر سكان الأطراف مجرد سكان محليين في زمن الحربو خدام استراتجيين للمركز في القاهرة المحروسة سواء لصد هجمات الأعداء أو لدعم الجيش المصري في حروبه شمالا و جنوبا , هكذا كان النوبيون يجندون قسرا في الجيش أو يستعبدهم أبناء أسرةمحمد علي , هكذا كان الأمر بين أبناء النوبة السودانية و المصرية قبل أن يتم تقسيمها , أسرد تلك الحقائق لأن أجيالا جديدة لا تدركها و ينظرون إلي بدو سيناء أو إلي أهل النوبة علي أنهم انفصاليين و عملاء لدول خارجية !!
النيل في القلب و العينيين
و قبل أن نخوض في الصدامات الحديثة بين النوبيين ومحافظ أسوان, نود أن نلفت الانتباه إلي أن علاقة النوبيين بالنيل علاقة إنثروبولوجية و روحية ترقي إلي درجة القداسة, و ليست مسألة جغرافية, فسكان النوبة الآن و بعد هجراتهم يسكنون 43 قرية علي ضفاف النيل, و منذ قديم الأزل عاش النوبيين في علاقة روحية مع النيل من قبل ظهور الأديان السماوية , واحتفظ النوبيين بمكانة النيل الخاصة ذلك الذي يرتبط بالتقاليد النوبية منذ الولادة و حتي اللحد مرورا بمراسم الزفاف , بل إن سكن النوبة في علاقته بالنيل يدل علي الوجاهة , و اللغة النوبية هي إحدي اللهجات اللغة الهيروغليفية القديمة – الدومنطيقية – و ينقسم النوبيون عرقيا إلي قسمين: ( الكنوز ) و هم من أصول عربية , و (الفدكة ) و هم من أصول أفريقية .
ويختلف تقدير الباحثين لعدد النوبيين من ثلاثة أرباع المليون إلي المليونين , يعيش نصفهم تقريبا في ربوع مصر , و يتوزع الباقون في جميع أنحاء العالم , لذلك يوجد أكثر من لوبي نوبي قوي في كبريات الدول الغربية ,بل و لهم امتدادات عرقية مع كثير من أصحاب الأصول الأفريقية في الغرب , و من ثم لابد أن نتفهم أنهم يمتلكون قوة و نفوذا دوليا (شأنهم شأن المهاجرين الأقباط) فمن الطبيعي أن يكون لهم نشاط داعم للقضية النوبية , و لكنهم وطنيون أصحاح و ليسوا ## عملاء ## كما تنظر اليهم بعد الأوساط الإعلامية دون وعي .
تضحيات متعددة و متفردة
تعد تضحيات أهل النوبة هي الأعمق و الأكثر تفردا بين أبناء الشعب المصري , فمنذ تعلية خزان أسوان الأولي 1907 , و الثانية 1929 , وصولا بناء السد العالي 1960 .. ثم تهجير و اقتلاع النوبيين من أراضيهم طوعا , فضحي أهل النوبة بالأرض و الروح و المكانة من أجل ألا يغرق أو يعطش باقي سكان مصر , و الذي تجهله الأجيال الجديدة : تعويضاتهم كانت عشرة قروش للنخلة , و ثلاثة جنيهات لفدان الأرض الزراعية , المنزل من خمسة إلي سبعة جينهات , و المضحك المبكي أنهم لم يحصلوا علي هذه الملاليم حتي الآن , بل و المساكن الشعبية التي نقلوا إليها لم تملكها الدولة لهم بل و حرموا بعد ذلك من تملك الأراضي علي البحيرة التي كانتسكنهم الأصلي الذي ضحوا به ! و امتد الحرمان إلي اللغة النوبية حتي أن أمن الدولة السابق كان يعتقل كل من كان يتحدث بهذه اللغة ثم حرموا شأنهم شأن باقي الأقليات المصرية من الالتحاق بالكليات العسكرية , و المناصب العليا . و لم تقتصر تضحيات أهل النوبة علي ما سبق بل دفعوا صفوف من الشهداء و الجرحي في الثورات من 1919 و حتي 25 يناير 2011 , مرورا بثورة 1952 , و يكفي أن نتذكر أن اللواء محمد نجيب كان من أصول نوبية , و كذلك قيادت كثيرة في الحركة الوطنية مثل المحامي زكي مراد , و الكاتب محمد مختار جمعة رحمهما الله , و لا يمكننا أن ننسي الفنان محمد منير و من قبله علي الكسار و فنانين آخرين أضافوا للفن الكثيررغم أن صورة النوبي في السينما و التليفزيون قاصرة حتي الآن !
حق العودة
لعل مطالب أهلنا في النوبةعادلة و سهلة التحقيق وهي :
التعويضات العادلة لتضحياتهم العظيمة , الحفاظ علي التراث النوبي و تدريسه في الجامعات فلا يعقل أن يدرس هذا التراث في أعرق و أكبر جامعات العالم و لا يدرس في الجامعات المصرية , إعطاء النوبيين نسبة في التعيينيات بالمناصب الحكومية بأسوان , حقهم في أولوية تملك الأراضي علي البحيرة , علما بأنهناك مساحة كبيرة علي ضفاف البحيرة تقدر بـ350كم2مهملة منذ 47 عاما و هي تكفي لاسيتعاب كل من يرغب من النوبيين في العودة لضفاف البحيرة , إضافة لمئات الآلاف من المصريين الآخرين, وضع نسبة من أرباح المؤسسات الحكومية لميزانية محافظة أسوان و هذا مطلبلا يخص النوبيين فقط بل كل أهل أسوان , و يمكن تطبيقه في سائر محافظات مصر في ظل نظام لامركزية عادل يضمن للمركز في القاهرة حقوقه وكذلك لسكان كل محافظة نصيبهم من الثروة القومية .
( أما المطالب الخاصة بالتعيينيات و دخول الكليات العسكرية , و السلك الدبلوماسي و القضاء , فتلك مطالب لا بد من تطبيقها ليس علي النوبيين فقط بل علي أهل سيناء أيضا , و الأقباط و غيرهم
تحذير أخير
بعد هذا التحليل الجاد والمحايد يبقي رصد تغير سلوكي حيث لجأ النوبيون للعنف لأول مرة في تاريخهم بحرق واجهة محافظة أسوان , و هناك تغيير سياسي من عوامل التعرية السياسية و النحر العولمي حيث يطالب بعض الشباب النوبي سواء من المهجر أو الأجيال الجديدةبالانفصال ! ! و يعود البعض منهم للخلف لأصولهم الأفريقية تماما مثلما يطالب بعض أبناء سيناء بإمارة إسلامية , أو بعض أقباط المهجر بالحماية الدولية , و كل ذلكيعود إلي خيبة أمل هؤلاء في النظام تميل بعد الثورة و خاصة بعد تضحياتهم الهائلة التي لم تجد صدي يذكر سوي تصريح هزيل من محافظ أسوان مصطفي السيد الخميس 8 سبتمبر بتمليك الأراضي المقامة عليها مساكن المتضررين و المهجرين النوبيين المقيمين بأسوان أو قبائل الأسوانية الآخري من شروانة شمالا و حتي أبو سمبل جنوبا !
مرة أخري الدكتور عصام نجاح شرف في نزع الفتيل لا يعني الانتهاء من الأزمة بل تسكينها لحين تحقيق هذه المطالب , و هذا درس يجب وضعه في الاعتبار , لأن مصير الدولة المصرية , و قضية خطيرة لها امتدادات دولية مثل القضية النوبية لا تترك ليد محافظ !, بل هي قضية أمن قومي مستمر فوق الصفائر التي تشغل قطاعا كبيرا من الشارع المصري مؤخرا مثل
جمهورية كوبري الجامعة و السفارة و العمارة , أو الجدار العازل !!