يشعل سيجارة خلسة في الحمام بعد أن منعته من التدخين في حجرات المنزل..يرتكن بظهره الثقيل علي الباب تاركا خلفه سنوات ذاب فيها وتفتتت أحلامه بين أصحاب العقول الخرسانية,وينظر إلي سحب الدخان المتصاعد خلفه..يجد لذة غريبة في الاستمتاع بتلك العادة اللذيذة التي أصبحت طقسا لا مجال للتنازل عنه,رغم ذلك يشعر بشيء من الحرج أمام نفسه وهو يفعل ذلك خلسة.
مرت سنوات كثيرة وهو رهين أعباء العمل والأسرة,آن له الآن أن يرتاح,ولكن أين تكمن هذه الراحة,فكل مرة يصعد بجسده المتثاقل علي السرير يتذكر لحظة رقاده الأبدي تبدو له حياته في العد التنازلي ولكنه لايعبأ بذلك بعد أن بدت له الآن باهتة تماما…
يحاول أن يتذكر إنجازاته بعد أن تهالكت قواه الجسمانية وأصبح أسير الألم والوحدة ولكنه لايجد سوي الفراغ يغلفه.
يتقابلان في طرقة المنزل عيونهما لاتلتقي, أصبح كل منهما كالآلة المتحركة التي نحتتها أصابع الحياة الخشنة..أحيانا تريد أن تصم أذنيها وتصمت وتوقف تلك الأفكار التي تموج في رأسها تحت الشعر المصبوغ والمساحيق الكاذبة التي تلملم بها أشلاء ما فقدته في مسيرتها نحو الحفاظ علي أسرة مترابطة.
ولكنها لاتحتمل الصمت..تهرب إلي كلماتها الفارغة معهن عبر الهاتف.
يضيق بهذه الكائنة التي تعكر صفو عالمه الساكن..أهذه المرأة هي ذاتها التي اختارها منذ ثمانية وثلاثين عاما ليقتسما معا لقمة العيش ومع كل تلك الضحالة التي اكتسبتها من عملها المكتبي هي زوجته التي جلست تحت أقدام والدته وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة لتخدمها حتي لحظة النهاية.
لم يندم أبدا أنه أحبها.
لم يندم من كونها الأقرب إلي واديها ولم يندم علي تفضيلها لهما.
لم يندم علي حياته التي أفناها في دروب الشرق والغرب يؤمن لهما مستقبل يهنأن به, لكنه لايدري سر تلك المرارة المترسبة في داخله,ينظر إليها بينما تتحرك شفتاها بالكلمات الجوفاء التي تذوب في الفضاء.
لايستطيع أن يحتمل كلمات التوبيخ وقد تخطي الستين من عمره لماذا يريد أن يحرمه الآخرون من أقل حقوقه..حقه في إفساد صحته كما يشاء؟!
يعز عليه أن يستجدي العطف والحنان والاهتمام حتي من أقرب الناس إليه لابد وأنهم يعرفون احتياجاته ولكنهم يتجاهلونها يهربان إلي عالمهما تفرغ قدر طاقتها في طهو الأصناف اللذيذة لأولاد,بينما يدير هو المحطات الفضائية حتي يدفن تلك الهواجس التي تشرخ الجزء المتبقي من شيخوخته يتواعدان علي ألا يقتحم أي منهما الآخر,حتي يحافظا علي العلاقة الشامخة التي شيداها معا علي مبدأ الاحترام المتبادل.
يأتي الليل ويستكين كل منهما علي وسادته وتتذكر أنها نسيت أن تحدد ميعادا مع مصفف الشعر اليوم عليها إذن أن تمر عليه غدا قبل الذهاب إلي واجب العزاء.
يحاول أن يغمض عينيه ويسبح في عالم النسيان,وتمر الدقائق كالساعات يظل محملقا في الفضاء الحالك حتي يأتيه الكلب في الصباح ويوقظه لتناول قهوته المكسيكية.