خرج من المطعم الشهير في شارع قصر العيني وهو يحمل حقيبة بلاستيكية كبيرة ممتلئة بالطعام الساخن بحرص شديد, تضايق حين لم يجد سيارة أجرة تتوقف له, لماذا لم يرسل سيده أحد سائقي المصلحة التي يرأسها كالمعتاد لهذا العمل الشاق بدلا منه, لم يفكر كثيرا وأخذ يسير في اتجاه ميدان التحرير كي يأخذ من هناك سيارة أجرة أو ميكروباص أو حتي مترو الأنفاق ليصل إلي فيلا سيده في مصر الجديدة, والذي أرسله منذ الصباح الباكر لإحضار الغذاء الذي يلائم مزاجه المنتشي اليوم, بعد أن حاز بالأمس علي قطعة كبيرة من أراضي إسكان الشباب بسعر بخس في صفقة كبيرة.
توقف في ذهول, كان الميدان ممتلئا عن آخره بالشباب لا يوجد مكان لقدم أو طريق للمرور, دهش لكثرة الأعلام المرفرفة وتذكر زوجة سيده وهي تلوح بالعلم احتفالا بفوز المنتخب بالكأس, وعلت وجهه مسحة حزن وهو يتذكر زوجته التي توفيت بالمرض الخبيث وهي التي لم تشك يوما من علة حين كانت تزرع بيديها كل شئ في أرضهم, إلي أن حاصرتهم ديون بنك التنمية الزراعي فانتقلا للعمل عند السيد وأصبحا يأكلان طعام الأسواق.
لسعته سخونة الطعام الذي يحمله فأفاق من ذكرياته, كان الشباب المحتشد يهتف بقوة وعزيمة لم يرها من قبل وهم يرفعون الأعلام, كان سيده يعايره بعدم قدرته علي الإنجاب, لولا صحته المعتلة وكليتيه الفاشلتين لأنجب 80 رجلا علي الأقل, فسر الطبيب اعتلال كليتيه بشرب المياه الملوثة بالصرف الصحي, هل جعلوا مصدر الحياة منبعا للموت؟
تردد السؤال بداخله وأحس بالعطش وهو ينوء بثقل الحقيبة البلاستيكية بما تحويه من زجاجات المياه المعدنية, ثم عاد للسؤال المهم وهو كيف يعبر كل ذلك الزحام ويصل لهدفه, لم يكن يري شيئا عن بعد, صعد فوق إحدي الدبابات وأخذ ينظر في كل الاتجاهات.
كانت هناك الجامعة الأمريكية ومنها يمكن الالتفاف حول الميدان ومن فيه, لكنه لا يستطيع الوثوق بالواقفين هناك ولايعرف نواياهم بالرغم من تنظيمهم الفائق. وعلي الناحية الأخري كان الطريق يمر بجامعة الدول العربية وتبدو الحشود هناك مألوفة له لكنها منقسمة علي نفسها وليست منظمة كالباقين, وسمع أصوات صراخ هائلة تأتي من شارع 26 يوليو, كانت قوات الأمن هناك تضرب بقسوة كل من يرفع علما أو صوتا ويتهمونه بالخيانة, فكر في العودة للخلف والمرور عن طريق الكنيسة الإنجيلية أو مسجد الشيح ريحان والوصول لقلب الميدان مباشرة, لكنه خشي أن يشك فيه المتظاهرون وتدب الفرقة فيما بينهم.
وبينما الحيرة تعصف به واليأس يتسلل إلي داخله, برقت عيناه ببريق الأمل وتسمرتا عند المتحف المصري.لابد من العبور إلي هناك, هكذا همس لنفسه في إصرار: إنه بداية الطريق إلي مصر الجديدة ولكن كيف يصل إلي هناك؟ نعم عبر أنفاق المترو التي صممها الفرنسيون الذين كانوا أصدقاء سيده يدعونهم صناع الحضارة الحديثة, كان هناك صعود وهبوط أكثر من مرة وكان الطريق شاقا متعبا داخل الأنفاق, لكن في نهاية النفق الأخير كان الضوء المبهر وكان الهواء النقي يهب من ناحية المتحف المصري.
كان أول ما رآه في المتحف بعد عبور النفق الأخير تمثال الأسد الرابض لحراسة المتحف, ورأسه رأس الملكة المصرية القديمة حتشبسوت تنظر للأمام في شموخ, لقد رأي تمثالا مثله من قبل لكنه أصغر حجما, كان سيده يحاول إهداءه لأحد السفراء الأجانب والذي اندهش بشدة ورفض قبوله.
أفاق من ذكرياته علي هتاف هائل من المحتشدين بالميدان, وأخذت الأصوات تتعالي من حوله تنقل الأخبار عن سقوط رموز الفساد, فغر فاه وهو يسمع اسم سيده من بينهم, وانهمرت الدموع من مقلتيه بغزارة شديدة, ودون أن يتكلم أو يشعر بما يفعل فتح الحقيبة البلاستيكية الثقيلة التي يحملها, وأخذ يوزع ما فيها من طعام ومياه علي الشباب والجنود في الميدان, وهو يحتضنهم في حنان الأب الذي لم يرزق أولادا من قبل, وعندما فرغ كان الإعياء الشديد قد تملك منه, فرقد بجوار الأسد الذي يحرس المتحف في ظل الملكة حتشبسوت, وأغمض عينيه وعلي وجهه ابتسامة النصر والسعادة بالوصول إلي مصر الجديدة.