سكن الليل..وأطبق صفير الصمت كنعيق بومة تردد صدي صوته في أرجاء الكون الفسيح..فخفق قلبعبيروهي تري خفافيش الظلام تطير وتحلق بجناحيها ..فحجبت وراءها نور الشمس..وباتت ليلتها لا أمل لها في إشراق فجر جديد..فقد غربت شمس حياتها إلي الأبد معلنة نهاية رحلة عذاب الانتظار والأمل المشفوع بالخوف..وبداية رحلة عذاب اليأس والحرمان ..فالطبيب الذي حاول أن يداوي قلبها بترياق الصبر حتي لا يتسرب سم اليأس ويسري في روحها معطيا لها الأمل في الإنجاب..ها هو اليوم يبتر قلبها من بين ضلوعه معلنا لها أن الطب قد عجز عن تحقيق حلمها..فمادت الأرض بها وبزوجهاعادلوهما يسمعان كلمات الطبيب المقتضبة..فقد كان الأمل مازال يختلج في صدرهما..وسرت تلك المفاجأة كالمخدر في أعصابهما..ولم تنبت شفتاهما بكلمة حتي وصلا إلي المنزل..ولم تحتمل عبير أن تري نظرات الحزن والأسي في عيني عادلأكثر من هذا..دخلت غرفة نومها..أغلقتها خلفها بالمفتاح ..ودخلعادلخلفها فوجد الباب موصدا..ودق الباب كثيرا لكنه لم يتلق أي استجابة..ورغم الألم والحسرة التي تمزق قلبه حاول أن يهدئ من روعها مؤكدا حبه لها مهما حدث..صرختعبيرمن خلف الباب..رافضة كلمات الشفقة والمواساة ..طالبة منه أن يتركها وشأنها..ولم يتمالكعادلنفسه إلا وهو يضرب الباب بقبضة يديه زائرا زئير أسد جريح..تاركا إياها حتي تهدأ.
ذهب عادل ليجلس وحيدا في غرفة المكتب..ناظرا إلي المكتبة التي أمامه..شاردا..منسحق النفس..منهك الأعصاب..فوقعت عيناه علي ألبوم الصور الذي يضم أجمل ذكرياته مع عبيرمحبوبة صباه وشبابه..قام من مجلسه..مد يده المرتعشة من الانفعال إلي المكتبة..أمسك بألبوم الصور..أخذ يقلب صفحاته يتحسس بأنامله صورتها ويقبلها..ثم ضمه إلي صدره..كأنه يضم أحلامه وآماله..يضم جمال عبير الذي ذبل من شدة المعاناة..غفت عيناه فرأيعبيرفي يوم العرس بفستانها الأبيض وابتسامتها المضيئة..وإشراق قلبها الذي لم يعله الغمام..وفيما هو حالم..أفاق من غفوته علي صراخ طفل. أما عبيرفقد ظلت تدور في حجرة نومها ..وأخذت تضرب بطنها بقبضة يديها كالمجنونة..وتهذي بكلمات كثيرة تنم عن عدم تصديقها أن أحشاءها ترفض حمل جزء من حبيب عمرها..حزينة لحرمانها له من أغلي شيء في الحياة وهو الذي لم يحرمها من شيء قط..حتي وقعت منهارة علي السرير فأخفت وجهها في وسادتها..وتنهدت فخرج من جوفها المحترق دخان أسود أغشي عينيها فبكت ..أنت ..تمنت..وهي تعلم أن حلمها لن يتحقق.
وبينما هي شاردة في أحزانها تنامي إلي مسامعها صراخ طفل رضيع..فظنت أن صوت الحرمان يصرخ بداخلها لكن الصوت تكرر ..قامت وفتحت الباب مسرعة.فوجدت عادلفي منتصف الردهة آتيا إليها..نظرت إليه نظرات ملؤها الحب والانكسار..فتح يديه داعيا إياها إلي أحضانه..جرت نحوه وارتمت في أحضانه وانسكب قلبها من فرط المعاناة..فما كان منعادلإلا أن ضمها بشدة ليثبت لها أنها محبوبته الوحيدة مهما عصفت بهما الأيام..وفيما هو يواسيها ترامي إلي مسامعهما مرة أخري صرخات طفل أثارت انتباههما لأنهما لم يعتادا سماع مثل هذا الصوت في حيهم الهادئ..نظرا إلي بعضهما البعض ودون أن تنبت شفتاهما بكلمة ذهبا إلي حيث مصدر الصوت الذي أتي قويا من الشرفة المفتوحة بالصالة. نظرا يمينا ويسارا فلم يجدا أحدا..فقد كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل والشارع خاو من شدة البرد والنوافذ مغلقة والكل نيام..
إزداد بكاء الطفل وباتت صرخته كصرخات استغاثة يدويها الشارع..فخفق قلب عادل وعبير ولم يتمالكا نفسيهما ونزل كل منهما إلي الشارع ليبحثا عن ذلك الطفل المكلوب..فبدت لهما الصوت واضحا ولكن العين عاجزة عن رؤياه..وبعد فترة من البحث بدأت عبير تشعر بالإنهاك من شدة التعب والانفعال فاستندت إلي إحدي السيارات غير محتملة صوت صرخاته التي باتت كطلقات رصاص تمزق قلبها ..وبدأت تكلم نفسها غير مصدقة أن يكونا هما الاثنان أصيبا في قواهما العقلية..وأن ما يسمعانه هلاوس سمعية من شدة المعاناة التي ألمت بهما..فرآهاعادل من بعيد متكئة إلي إحدي السيارات فظن أنها متعبة فأتي إليها مسرعا..حينئذ أحس بالصوت يزداد وضوحا. نظر حوله فلم يجد الطفل ولكن شيئا ما ألهمه أن ينظر تحت السيارة التي تقف بجانبها عبير فكانت المفاجأة..الطفل موضوع أسفل السيارة يرتعش ويصطبغ وجهه وأطرافه بالزرقة من شدة الجوع والبرد..مد عادل يده وأخذ الرضيع واضعا إياه بين كفي عبير التي لم تصدق نفسها..ضمته إلي حضنها باكية فقد كانم بالنسبة لها هدية السماء..