عندما رآها لأول مرة,وقف أمامها متجمدا في مكانة متعجبا ومندهشا ومبهورا ,شدته إليها بقوة عينيها اللامعتين, أذهلته شفتاها الحمراوان الممتلئتان المثيرتان,أعجبته وقفتها المليئة بالثقة والكبرياء,وكأنها تقول لكل من ينظر إليها:…ها أنذا أمامك…انظر لي جيدا…تأملني كما تشاء علي مهل..هل رأيت من قبل من هي مثلي؟هل تحلم بأن تقابل من هي أجمل مني؟!
عندما خيل إليه أنها تكلمه هو دون غيره ,قال لنفسه آملا:
-ليتها تكون من نصيبي…
سرح مع عينيها إلي عالم بعيد من الأحلام الجميلة وشبه المستحيلة. تخيل نفسه فارسا يذهب إليها علي فرسه الأبيض الرشيق السريع ليأخذها وراءه ويطير بها إلي جنة بعيدة مليئة بالزهور وخالية من زحام الناس وضجيجهم.
وفجأة أفاق من حلمه الجميل والمستحيل أيضا,وتذكر أنه لايملك حصانا سريعا ولا حتي حمارا بطيئا ولا أي شيء آخر له قيمة تذكر..وحينئذ تصور نفسه راعيا للغنم يمسك بين يديه بناي صغير يعزف عليه بعض الموسيقي الموحية والنغمات الشجية,بينما كانت هي تمشي إلي جواره,وقد راحت تغني بصوتها الرخيم المعبر والمؤثر بعض المواويل والأهازيج الشعبية المعروفة,وقد اندفعت أمامها بعض الغنمات والمعزات..
وراح يمصمص شفتيه أسي وحسرة وهو يراها كأنها تغمز له بعينيها الساحرتين اللامعتين,وتهمس له مبتسمة وآسية أيضا:
أنا أعرفك جيدا..أنت لاتملك خرافا عدة ولامعزات,أنت لاتملك من كل هذه الدنيا إلا جلبابك الرث والباهت اللون,والذي لايمكنك تغييره إلا من العيد للعيد,أو حتي كل عدة أعياد!!
قال لنفسه هامسا:
- عندها حق…فحتي في هذا العيد الذي نحتفل به في هذه الأيام,لم أجد معي نقودا تكفي لشراء جلباب شتوي جديد يستطيع أن يخفف عني برد الشتاء القارص,والذي لايستطيع هذا الجلباب القديم والممزق أن يحميني من لسعاته الموجعة,لكن ماذا يمكنني أن أفعل؟! لا أملك إلا أن أشكر الله علي كل حال.
كان منذ قليل قد وقف يتفرج علي هذه الأرجوحة التي يركبها الأطفال ,وقد راحوا يهزونها ويدفعونها لكي تطير بهم إلي فوق وتنزل بهم إلي تحت في حركات متتالية ,وهم يصرخون خائفين ويصيحون فرحين في نفس الوقت,ويهتفون كلما ارتفعت بهم الأرجوحة وكلما انخفضت بصوت واحد قائلين:…هيه….هيه…هيه.
وكانوا يرددون هتافهم هذا في نغمة موسيقية مميزة ومتكررة ,ويكاد يخيل لمن يراهم ويسمعهم أن هذا الهتاف يصدر عن الأرجوحة نفسها ولايصدر عنهم.
لكنه الآن وبعد أن رآها نسي كل ما رآه قبلها,نسي الأرجوحة والمزمار والبالونة الملونة والدراجة التي طالما تمني أن يركبها ويلف بها حول العالم كله..نسي الدنيا كلها ولم يعد يتمني من كل هذا العالم شيئا سواها,وأصبح حصوله عليها هو عيده الحقيقي وأمله الوحيد وحياته كلها.
وفكر قليلا ,ثم وضع يده في جيب جلبابه القديم الرث,والذي كان قد غسله قبل العيد بأيام قليلة ليكون نظيفا ولائقا بالعيد..أخرج بضعة قروش قليلة هي كل ما كانت معه,وتقدم مخترقا الزحام,وصل إلي حيث كان يقف الرجل الضخم خلف المنصة.قدم له قروشه وهو يشير له بيده الأخري إلي العروسة الملونة ذات الوجه الجميل والابتسامة التي سحرته. أمسك الرجل الضخم بالقروش القليلة وعدها بسرعة, ثم قال له بصوت قوي ومبحوح معا:
-هذه القروش لاتكفي لكي تحصل علي هذه العروسة…هات خمسة قروش أخري حتي أعطيها لك…
هز الصغير رأسه متأسفا,واغرورقت عيناه بالدموع ,ونظر للرجل الضخم مستعطفا ومسترحما وهو يفهمه بأنه لايملك غير هذه القروش التي أعطاها له,ويرجوه أن يعفيه من القروش الخمسة التي يطلبها منه لاستكمال ثمن العروسة التي يريدها…وعند رفض الرجل الضخم توسلاته الباكية وأصر علي أخذ خمسة قروش أخري منه,نظر إلي العروسة الملونة والمبتسمة وهمس لها بحزن:
- آسف يا حبيبتي…العين بصيره واليد قصيرة…وأنا لا أملك إلا القروش القليلة التي أعطيتها لصاحبك..ولكنني أقسم لك وأعدك بأنني عندما تتوفر لدي النقود الكافية سآتي وأدفعها لهذا الرجل الضخم الجثة والقاسي القلب لأحصل عليك وآخذك معي…إذا وجدتك مازلت هنا…
قال للبائع بصوت خفيض ومملوء بالأسي الذليل:
- أعطني بعض أقراص السمسمية والحمصية إذن…
ناوله البائع لفافة صغيرة,عبر الشارع إلي الناحية الأخري,وجلس علي الرصيف المواجه للمنصه المليئة بأنواع مختلفة من الحلوي,ومجموعة من العرائس الملونة وقد توسطتها عروسته الجميلة. أخرج قرص سمسمية وقضم منه قطعة ملأ بها فمه الصغير,ونظر إلي عروسته التي كانت مازالت تبتسم. هز رأسه معتذرا لها. مضي في طريقه وقد أحس بالمرارة تملأ فمه وقلبه ومشاعره كلها…