صباح الخير يا سعاد
قالها لطفي في سخرية مغلفة بالحزن
قالها وكأنه يعلم أن لا وجود للخير في الظروف التي نمر بها
ما شفتيش الوالد عامل إيه النهاردة؟!
دخلت له الصبح ولقيت وجهه زي الورد والنشاط باين عليه,انفرجت شفتاها عن ابتسامة متخابثة ..صمتت وولت وجهها شطر الحائط كأنها غير مقتنعة,بما تقول ثم أكملتوطلب مني طعام الإفطار مثل الأول,ضحكت فجأة لتخف إحساسها بالمرارة فأتت ضحكتها في غير أوانها..وبدت بعد ما خلفته من صمت كالبلهاء.
الدار واسعة فيها كثير من الثراء والمدنية وإن كانت ملامح الحياة الريفية بائنة بها بما يدل علي أن أصحابها من أصول ريفية فالمتاع كثير لكنه غير منسق وطلاء الحوائط زاهي الألوان بشكل مفتعل .
بعد قليل تجول الوالد في البيت متكأ علي عصاه التي أتي بها من الأراضي المقدسة فسمعنا جلبته الخفيفة المحببة لنا جميعا,دخل الحمام,أطال الوقوف تحت الماء الدافيء …تبادلنا معه بعض الكلمات وتأكدنا من إنه إن لم يكن قد شفي فهو في طريقه للشفاء ,ولم يتغير كأنه ولد كبير هكذا..تقدمت منه لمحت في عينيه شيئا ما يريد أن يقوله ظللت بجانبه فقد أومأ لي بذلك.
حكي عن ذكرياته أيام حرب أكتوبر وعما نقشته في وجدانه وكأنها الحدث الوحيد الذي مر به.
في البداية قال:إنه في اليوم الرابع للقتال كانت القوات المصرية قد حققت نصرا عسكريا هائلا,لكنه كان لابد من استمرار الهجوم شرقا لأن ترك العدو بدون الضغط عليه كان يعني انتقال المبادرة له لذا يجب حرمانه من القيام بهذا العمل,ثم اعتدل في جلسته فالحديث عن نصر أكتوبر يعيد إليه شبابه كأنما يتحدث عن محبوبته ثم أكمل كلامه :كان من الواضح أنه كلما طال وقت الانتظار بعد 9 أكتوبر وهو رابع أيام المعركة كان لدي الجانب الإسرائيلي فرصة لدعم موقفه العسكري وبالفعل ظهرت بوادر نجاح إسرائيلي علي جبهة الجولان مما شكل عامل ضغط علي الرئيس السادات الذي أصدر قرارا بتطوير الهجوم شرقا يوم 12 أكتوبر..
وقف فجأة وأسند ظهره للحائط وقال إن الحديث عن الحرب كالحرب نفسها كلاهما يحتاج إلي قوة,ثم عاود الحديث:كانت القوات الإسرائيلية قد منيت بخسائر عديدة طوال أيام القتال وإزداد الوضع الداخلي سواء حتي قالتجولد مائيررئيسة وزراء إسرائيل حين ذاكلا أعرف كيف سأواجه عائلات القتلي في الحرب؟.
هنا أنفرجت شفتاه عن ابتسامة فخر بقوته وقوة الجيش المصري كأنما هو وحده الذي حقق هذا النصر..أشفقت عليه من كثرة الحكي فاقترحت عليه أن يشرب كوبا من اللبن الدافيء فرفض,وأكمل:في صبيحة15 أكتوبر تسللت قوة من الجيش الإسرائيلي إلي الشاطيء الشرقي لقناة السويس لحقت بها سرية دبابات وتمكنت قواتنا من إغلاق الممر الصحراوي وبذلك أصبحت القوات الإسرائيلية معزولة في منطقة الدرسوار بالقناة,وبعد ذلك دارت رحي المعركة كغيرها من المعارك بين صعود وهبوط ووقع ضحيتها أبطال من الجانبين لكن ثبت أبطالنا بينما لم تحقق إسرائيل أي أهداف سياسية أو عسكرية إلي أن قرر مجلس الأمن وقف إطلاق النار علي أن يبدأ يوم 22 أكتوبر وبعد ذلك دار القتال مرة أخري بعنف شديد وكان لإسرائيل خلال هذه الفترة التفوق العسكري وكانت لها المبادرة,والسبب في ذلك أن هذه المنطقة كان بها الكثير من المستودعات والمخازن التي لايتيسر لها بحكم عملها السياسي التسليح الكافي ونتيجة لذلك صدر قرار عن مجلس الأمن يحث الأطراف علي الالتزام بالمبدأ السابق:
توقف الوالد قليلا ثم قال كأنه يقرر شيئا نسيه:برغم صدور القرار رسميا عن مجلس الأمن إلا أن إسرائيل تركت لجيشها حرية القتال علي أمل احتلال السويس ودارت معركة السويس بمقاومة شعبية من أبناء السويس,ومع فشل العدو وتوجهه جنوبا إلي ميناء الأدبية جنوب السويس استولي علي الميناء, كما نجح في قطع طريق مصر السويس الصحراوي وهو الورقة التي أستغلتها إسرائيل بعد ذلك سياسيا..شعرت أن عينيه أغرورقتا بالدموع فربت علي كتفه ومسح هو عينيه وأكمل:كانت قوات إسرائيل في سيناء تقف دون تأثير مما سبب لها نزيفا متزايدا ونجحت فقط في تحقيق هدف تكنيكي هو قطع طريق مصر السويس الصحراوي وقد ركزت علي هذا النصر المحدود وكان حري بنا أن تكون هناك حملة مضادة لتوضيح الحقائق,لكننا لم نفعل وبالرغم من ذلك تحولت القوات الإسرائيلية غرب القناة من سلاح تضغط به علينا إلي سلاح نضغط به نحن علي إسرائيل ومصدرا لاستنزاف معداتها واقتصادها مما دفعها لطلبت سحب قواتها شرقا بعيدا عن القناة,هنا توهج وجه أبي وضج بالفرح:كأن النصر كان بالأمس أو أول أمس.
وعند هذا الحد اطمأنيت عليه فأستأذنت منه وذهبت إلي معمل المخللات الذي أسسه لنا-شفاه الله-فقد خرجت من المدرسة منذ زمن لكي أعينه في عمله ,لكني أعرف القراءة والكتابة وبمرور الأيام علمت نفسي بنفسي الكثير من العلوم من سياسة واقتصاد..إلخ وقد تكونت لدي قناعة أنه علي أن أقبل ذاتي وأطورها بقدر الإمكان وهذا ما يرسو بي إلي بر الأمان,وهو أفضل بكثير من أن أتطلع لما ليس في يدي…
والآن بعد أن مرض أبي منذ أكثر من شهر أصبح علي أن أشتري الخضار وألاحظ العمال وأنزل السوق وأتابع البيع والشراء وأقبض الثمن,كانت تساعدني في ذلك قبلا سعاد وهي آخر العنقود والمدللة من الجميع لكنها الآن دخلت الجامعة كي تتعلم وتعمل وتنقل لنا كل جمال العلم.
تمتمت ببعض الأدعية وأنا أقف أمام باب البيت وتطلعت إلي السماء أسألها الستر تحركت إلي الأمام لأبدأ يوما مليئا بالعمل لكن لا يخلو من الأمل.
في المساء عدنا إلي البيت فسمعنا صوت الصمت..فتحنا حجرة الوالد فهالنا ما رأيناه,الحجرة مظلمة وهو غارق في نوم أبدي بشعره الأشيب وسبحته التي لم تفارقه منذ نصف قرن..كان غارقا في النوم وعيناه جاحظتان تنظران إلي لا شيء.