الفرحة في كل قلب والمسرة في كل روح والبسمة في كل وجه والهدايا توزع هنا وهناك والأمنيات الطيبة تنقل الود والمحبة من نفس إلي نفس والثلج الأبيض يتساقط ويكسو كل شئ بلون ناصع بهيج… الأرض تشارك السماء فرحتها. فالليلة هي عيد الميلاد.
وباب كل منزل يفتح ويخرج منه أشخاص بهم شوق إلي تمجيد الرب, والعربات المقفلة تنقلهم إلي الكنائس,حيث النور والإيمان والمحبة, وحيث يتلاشي الجميع في ترتيل واحد صادر عن القلب… وفي السماء تسطع كلمات من النور المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام وبالناس المسرة وتتفتت الكلمات إلي ملايين من قطع النور الصغير التي تجد طريقها إلي كل قلب.
وينتصف الليل ويعود الجميع إلي البيوت وفي آياديهم الشموع وفي قلوبهم الطمأنينة, وتغلق الأبواب اتقاء للبرد فتهدأ الحركة, وينعدم الضجيج, ويتزايد تساقط الثلج فيشتد البرد ولا يبقي في الشارع إلا طفلة صغيرة عارية الرأس والقدمين في أسمال بالية, ليظهر جسمها النحيل من أجزاء كثيرة فيها وتحمل في يدها صندوقا من الورق وبه علب من الكبريت.
***
لقد مضي اليوم كله دون أن تبيع علبة واحدة, فهي لم تأكل شيئا سحابة يومها وعندما خرجت من البيت في الصباح كانت تلبس شبشب أمها القديم الواسع,ولكنها فقدته عندما جرت مسرعة لتتفادي عربة أتت مسرعة وكادت تصدمها… وضاع الشبشب في الزحام فاضطرت أن تواصل سيرها حافية القدمين… لقد ذرعت الشوارع كلها وشاهدت الاحتفالات والمواكب وتطلعت كثيرا -من النوافذ- إلي موائد الطعام في البيوت والمطاعم ووقفت طويلا بباب الكنيسة تستمع إلي الترانيم الشجية دون أن تجرؤ علي الدخول… والآن كاد الليل ينتهي وهي لا تعرف أين تتوجه… إنها لا تستطيع أن تعود إلي البيت حتي لا يضربها أبوها بوحشية كما يفعل دائما بسبب أو بدون سبب… أما الليلة فمن المؤكد أن عقابه لها سيكون شديدا لأنه كان ينتظر ثمن علب الكبريت ليشتري به خمرا, فهي لذلك تسير بدون هدف. والخوف والجوع والبرد يمزق كيانها الضئيل وقد لون جسمها -من الصقيع- بلون أزرق حزين خلف هذه النوافذ المضيئة مواقد مشتعلة وموائد موضوعة وأسرة ناعمة دافئة وأطفال هانئون قابعون في أحضان والديهم وفي قلوبهم! وسارت حتي وقفت بين جدارين والتصقت بالجدار وجمعت أسمالها حول جسمها لتتقي ما تستطيع اتقاءه من البر…
ولكن لا فائدة فالبرد القارس القاسي يتخلل عظامها ويشكها بإبر حادة… ما أجمل أن تجد نفسها أمام مدفأة مشتعلة… لو أنها تستطيع أن تشعل عودا من الكبريت وتتدفأ -ولو قليلا- بشعلته وجرأها البرد واليأس ففتحت علبة وأشعلت عودا فانبعثت منه النار براقة بهيجة… آه ما أجمل الدفء وأحاطت النار بيدها المرتعدة حتي لا ينطفئ بسرعة… إن نار العود ترسم منظرا جميلا علي الجدار… إنه منظر مدفأة ضخمة ترتفع منها النار بقوة. وملاها الجذل فمدت قدمها لتدفئها,ولكن العود أنطفأ فاختفي المنظر البديع ووجدت نفسها مرة أخري في الظلمة والبرد وفي يدها خشب العود المنطفئ. ألا تستطيع أن تشعل عودا آخر؟ وأشعلت العود فأضاء الجدار بقوة ورأت عليه منظر حجرة فاخرة الأثاث ورأت في وسط الحجرة مائدة كبيرة مغطاة بمفرش من الحرير الثمين عليها أطباق تحمل ألوانا من الأطعمة والفاكهة والحلوي وفي الوسط طبق كبير به أوزة مشوية… يا لله هل هناك أوزة مشوية بهذا الحجم! وملأت الرائحة الشهية خياشيمها فتقدمت لتتناول الشوكة والسكين وتأخذ قطعة من الأوزة ولكن عود الكبريت انطفأ فاختفت الحجرة… يا للخسارة!
وأشعلت عودا آخر فرأت أمامها شجرة عيد ميلاد هائلة الحجم مليئة بالثريات المضيئة الملونة واللعب الجميلة وقوالب الشيكولاتة وقطع الحلوي الفاخرة فسرعان ما مدت يدها لتنزع قالبا من الشيكولاته. وانطفأ العود,ولكن قبل أن تختفي الشجرة خرجت الثريات المضيئة الملونة بالأحمر والأخضر والأزرق والبرتقالي وارتفعت إلي السماء وصارت نجوما تسبح في الفضاء… ثم سقطت نجمة منها بسرعة واختفت في الظلمة اللا نهائية فقالت الطفلة في حزن: آه يارب! إن هذه النجمة الساقطة تدل علي أن إنسانا يموت في هذه اللحظة… من هو يا تري؟ فقد علمتها جدتها -وكانت المخلوق الوحيد الذي يحبها ويعطف عليها- إنه عندما تسقط نجمة من السماء ترتفع روح من الأرض لتضئ مكانها في السماء… وقد أيقنت ذلك بعد ما رأت نجمة تسقط في الليلة التي ماتت فيها جدتها منذ سنوات…
وأشعلت عودا آخر فأضاء ورسم دائرة بديعة من النور تحيط بها النجوم اللامعة ورأت في وسطها جدتها في رداء أبيض ينعكس بياضه علي وجهها فيشع بهاء من وراء العقول… فصاحت: جدتي الحبيبة… أين أنت؟ لقد كانت حياتي شقاء متصلا منذ أن فقدتك… لقد فقدت شبشبي اليوم ولم أستطع أن أبيع علبة واحدة من الكبريت وسيضربني أبي إذا عدت إلي البيت… خذيني معك… لا تختفي كما اختفت المدفأة والأوزة المشوية وشجرة عيد الميلاد. وبسرعة أشعلت عيدان العلبة كلها لكي تبقي صورة حدتها أطول مدة ممكنة فأضاء المكان بنور وهاج كالشمس وعند ذلك ابتسمت الجدة في حنان ومدت يديها وأخذت يد الطفلة وأدخلتها معها في دائرة النور وارتفع الاثنان إلي السماء,حيث كان النور يتزايد وحيث كانت تنبعث حولهما موسيقي ملائكية تستقبل الطفلة التي لم تعد -الآن تشعر بالخوف أو البرد أو الجوع.
***
وفي الصباح خرج الناس لاستقبال اليوم الجديد فوجدوا طفلة مكومة بجوار الجدران يغطيها الثلج وتبدو أجزاء جسمها من بين أسمالها زرقاء وبجوارها بقايا عيدان الكبريت المنطفئة. وسقط شعاع الشمس علي وجهها فظهرت ابتسامتها الملائكية التي كانت آخر شعور بشري ظهر علي وجهها… وقال الناس في دهشة: لقد تجمدت هذه الطفلة من البرد وماتت. وهزوا رؤوسهم أسفا,إنهم -في الحقيقة- لم يعرفوا شيئا عن الرؤي البديعة التي رأتها في الليل ولا عن الجلال والبهاء اللذين دخلت بهما السماء.
وطني في 12/25/ 1960