خلافا لكل التوقعات قبل كل أطراف النزاع بيسر وسلاسة قرار محكمة التحكيم الدولية بلاهاي حول إعادة ترسيم حدود منطقة إبيي السودانية المتنازع عليها بين الشمال والجنوب, وقد جاء هذا القبول بردا وسلاما, ليس علي إبيي وحدها, وإنما امتد ذلك ليشمل كل فئات الشعب السوداني, وكل القوي الإقليمية والدولية التي كانت تترقب حكم المحكمة وتضع يدها علي قلبها خشية حدوث توترات أو انفلاتات أمنية في هذه المنطقة الحساسة التي مثلت في الآونة الأخيرة أهم مصادر التهديد لاتفاقية نيفاشا الموقعة في يناير 2005, حيث خيم شبح العودة إلي الحرب بين الشمال والجنوب إثر الصدامات الدامية التي وقعت في العام الماضي.
ومن المعروف أن منطقة إبيي هي مثلث من الأرض يقع في منطقة التخوم الجغرافية الفاصلة بين الشمال والجنوب تقطنه قبيلة الدينكا نقوك الجنوبية, وقد جري تحويل التبعية الإدارية لهذه المنطقة إلي الشمال منذ عام 1905, وبقيت كذلك حتي الآن, رغم أن الفرصة كانت سانحة لإعادة تبعية المنطقة للجنوب مرتين في عامي1930 و1956, ولكن زعماء الدينكا نقوك فضلوا لحساباتهم الخاصة الاستمرار كجزء من الشمال, الأمر الذي كان يجعل من هذه المنطقة مثالا للتعايش والتواصل بين الشمال والجنوب.
غير أن هذا الوضع لم يعد قابلا للاستمرار بالنظر إلي حصول الجنوب علي حق تقرير المصير المقرر أن يتم الاستفتاء عليه في عام 2011, وبالتالي طالب الجنوبيون بعودة منطقة إبيي إلي الجنوب, في حين أن الحكومة السودانية كانت تري أن هذه المنطقة أصبحت شمالية بعد بقائها لحوالي قرن كامل تابعة للشمال, فضلا عن التداخل القبلي التاريخي لقبائل المسيرية العربية وحقوقها المستقرة في الرعي والعبور في هذه المنطقة, الأمر الذي كان مثار خلافات حادة أثناء مفاوضات نيفاشا, وانتهي الأمر بإفراد برتوكول خاص لإبيي في اتفاقية نيفاشا نص في بنوده الأساسية علي أن يتفق الطرفان علي ترسيم حدود إبيي وبعد ذلك يتم اجراء استفتاء بين سكانها يعلنون فيه موقفهم من الانضمام إلي الجنوب أو الاستمرار كجزء من الشمال, علي أن يكون هذا في نفس يوم الاستفتاء علي حق تقرير المصير لإقليم جنوب السودان. وأنه إذا عجز الطرفان عن الاتفاق, يحال الأمر إلي لجنة من الخبراء للنظر في الأمر, علي أن يكون تقرير اللجنة ملزما للطرفين.
ومن الواضح أن حساسية ترسيم الحدود لمنطقة إبيي تعود إلي أن الجنوب قد ينفصل في عام 2011, ومن ثم فإن الحدود التي سيتفق عليها قد تتحول إلي حدود سياسية بين دولتين مستقلتين, وبالنظر إلي الفجوة الشاسعة بين رؤي الطرفين الجنوبي والشمالي حول ترسيم الحدود, فقد تم رفع الخلاف إلي لجنة الخبراء, التي أصدرت تقريرا ذكرت فيه أنها لم تستطع تبين الحدود التي كانت عليها منطقة عموديات الدينكا نقوك التسع في 1905, وبدلا من أن تعيد لجنة الخبراء الأمر إلي الطرفين الأصليين, قامت من جانبها باقتراح حدود جديدة للمنطقة, أدت من الناحية العملية إلي توسيع حدود منطقة إبيي وامتدادها إلي مناطق لم يكن الجنوب يطالب بها من الأصل. والأكثر خطورة أن الحدود التي رسمتها لجنة الخبراء أدت إلي وقوع آبار النفط في داخل حدود إبيي, الأمر الذي نظر إليه علي أنه يمثل تشجيعا للجنوب علي الانفصال, حيث من المتوقع أن يختار سكان إبيي الإنضمام إلي الجنوب في الاستفتاء المقرر في 2011 .
الحكومة السودانية رفضت تقرير الخبراء علي أساس أنهم تجاوزوا صلاحياتهم, في حين تمسكت حكومة الإقليم الجنوبي بالتقرير واعتبرته ملزما, مما أدي إلي وقوع صدامات دامية بين الجانبين ودخول قبيلة المسيرية علي خط هذه الصدامات بعد أن أعلنت أنها لن تعترف بأي وضع يمثل اعتداء علي مصالحها وحقوقها التاريخية. وبعد أن بلغ التوتر ذروته, وخشية من الانزلاق إلي حرب شاملة اتفق الطرفان علي اللجوء إلي المحكمة الدائمة للتحكيم الدولي في لاهاي لحسم النزاع , حول ما إذا كان الخبراء قد تجاوزوا صلاحياتهم أم لا ؟. وفي حالة ثبوت التجاوز.. ما الحدود التي يجب أن تكون عليها منطقة إبيي طبقا للوثائق والأدلة التي سيقدمها الطرفان. كما اتفق الطرفان مسبقا علي أن الحكم الصادر سيكون ملزما للطرفين فورا ودون أدني نقاش أو تراجع.
علي هذه الخلفية كان هناك ترقب هائل مشوب بالتوتر والقلق انتظارا لقرار التحكيم, حيث أعلنت حالة الطوارئ القصوي في قوات الأمم المتحدة المرابطة بالجنوب, وتم اتخاذ إجراءات أمنية احترازية واسعة النطاق, وفرض حظر التجول في المنطقة, كما انتقل إليها كل من المبعوث الرئاسي الأمريكي سكوت جريشن, والمبعوث الأممي أشرف قاضي, ووزير الداخلية السوداني حاد محمود للمتابعة الميدانية ولاحتواء أي توترات قد تحدث.
الحكم في مضمونه جاء منصفا لوجهة نظر الحكومة السودانية وأعطاها الكثير من المصداقية, فقد نص علي أن الخبراء قد تجاوزوا صلاحياتهم في ترسيم الجهتين الشرقية والغربية لإبيي, وأنهم تجازوا صلاحياتهم أيضا -جزئيا هذه المرة- في تحديد الحدود الشمالية, كما وضع الحكم حدودا جديدة أدت إلي منح الشمال مساحة تتراوح بين عشرة آلاف واثني عشر ألف كيلومتر مربع من إجمالي المساحة المتنازع عليها, والتي تبلغ حوالي 16 ألف كيلومتر مربع, والأهم أن هذه الحدود جعلت أهم حقول نفط السودان وهو حقل هجليج تابعا للشمال. كما أكد الحكم علي الحقوق الثابتة في الرعي والتنقل عبر المنطقة لكل من قبيلتي المسيرية والدينكا نقوك, حتي لو تحولت الحدود الإدارية لإبيي فيما بعد إلي حدود سيادية طبقا للقانون الدولي المعمول به في مثل هذه الحالات.
ومما لاشك فيه أن إعلان الطرفين قبولهما للحكم وإبلاغ الأمم المتحدة رسميا بانتهاء النزاع بينهما حول إبيي يعد انتصارا حقيقيا للسلام والاستقرار في السودان, ويرجح أيضا كفة الوحدة.. فمن الأفضل للجنوب أن يبقي في الوحدة لكي يكون له نصيب من إيرادات النفط الذي أصبح معظمه الآن شماليا.