نكاد نبلغ منتصف الطريق في مسار الانتخابات البرلمانية وجميع التيارات السياسية تتسابق في حلبة المنافسة بالمرحلة الثانية للفوز بمقاعد مجلس الشعب.وكان من شأن النتائج التي أفرزتها المرحلة الأولي أن جلس كل فريق ليراجع حساباته ويعدل من خططه,فالنتائج بالقطع أدهشت أنصار التيار الليبرالي -إن لم تكن أدهشت أنصار التيار الديني أنفسهم-بعدما أظهرت تفوقا واضحا لمعسكر التيار الديني:حزب الحرية والعدالة الجناح السياسي للإخوان المسلمين ومن بعده حزب النور السلفي…فإذا كان ذلك انعكاسا لرأي الشارع المصري وصندوق الانتخاب,لامفر إذا من إعادة حسابات المتنافسين من أنصار التيار الليبرالي لحشد الصفوف في المرحلتين التاليتين.
لذلك لم يكن مفاجأة الإعلان عن تحالف ستة أحزاب ليبرالية واتفاقها معا علي دعم مجموعة مشتركة من مرشحيها للمقاعد الفردية بالمرحلة الثانية مع الإبقاء علي قوائمها كما هي,بل إن هذه الخطوة تعد بمثابة تصحيح للمواقف السابقة المتعنتة التي شابت محاولات الائتلاف بين تلك الأحزاب حيث غلبت عليها المساومات الشخصية والنزعات الفردية,فتفرقت كل منها ووقفت فرادي أمام صندوق الانتخاب فراحت ضحية تفتيت الأصوات,وكان تأثير ذلك واضحا علي الحصيلة المتدنية أو المعدومة التي حصدتها من المقاعد البرلمانية.
أيا كانت النتائج التي ستتمخض عنها المرحلة الثانية-ومن بعدها المرحلة الثالثة-للانتخابات وأيا كانت الحصيلة التي سيحصدها كل فريق ليستحوذ علي الأغلبية أو يقنع بالأقلية,فإن الوقت حان للتفكير فيما بعد الانتخابات وماذا يكون شكل الأداء البرلماني في دورة تعد الأهم والأخطر في تاريخ الحياة البرلمانية المصرية؟….أقول ذلك لأن الساحة السياسية تموج حاليا بالاستنتاجات والتكهنات والتصريحات التي ترسم مشاهد وسيناريوهات لكيفية حكم مصر وخطوات تغيير مؤسسات الدولة وتعديل حياة المصريين لتتواءم مع أجندات وتطلعات شتي الفرق التي تتصدر السباق البرلماني,ولا يخفي علي أحد أن سيل التصريحات التي تنطلق في هذا الصدد عبر وسائل الإعلام يفجر ردود أفعال مقلقة بين المصريين تتباين بين الحيرة والفزع والارتباك-وحتي السخرية-إزاء مايبدو أنه تهديد لركائز المجتمع المصري وعبث بحياة المصريين وإحلال للتشدد محل الوسطية.
يقول البعض إنه لايمكن لأي فصيل سياسي أن يفرض أجندته الخاصة علي جميع المصريين,ولايمكن لأية أغلبية برلمانية أن تختطف الدستور أو التشريع,وأن المصريين الذين نزلوا للشارع في يناير الماضي ثائرين علي نظام مبارك وجهازه الأمني الرهيب ونجحوا في إسقاطه رافعين شعارات الحرية والدولة المدنية لن يتوانوا عن النزول للشارع مرة أخري للوقوف في وجه أي محاولة لتغيير وجه الحياة المصرية أو اغتيال وسطية المجتمع المصري…لكن هل ذلك هو السيناريو الوحيد المحتم أن تسلك فيه مصر؟…وهل مقدر علي المصريين أن يظلوا في حالة ثورة وصراع وهم يعيدون تشكيل مستقبل مصر الجديدة؟.
لاأتصور أن ذلك هو السيناريو الوحيد المحتم أن تمضي فيه مصر,بل هناك مسار آخر لإنقاذ الوطن من براثن التشرذم والعراك وهو مسار التواصل والحوار والتوافق..مسار البحث عن المساحات المشتركة التي تجمع الفصائل السياسية المختلفة…مسار البصيرة السياسية التي تغلب مصلحة الوطن وتعمل علي جميع الشمل لما فيه صالح كل المصريين.
في هذا السياق أتصور أنه علي كل من قادة التحالفات الليبرالية وقادة التحالفات الدينية أنه يبحثا عن بعضهما البعض وأن يدخلا في حوار سياسي لتأسيس توافق وطني حول كيفية إدارة شئون البلاد واجتياز المرحلة الانتقالية المقبلة بأمان وسلام لتحقيق الاستقرار والتركيز علي الإصلاح والتنمية…ولست أجد ذلك عسيرا أو صعب المنال,لأن وسط صخب التصريحات المتشددة الأصولية التي غزت وسائل الإعلام في الفترة الماضية لم أغفل عن التقاط أصوات حكيمة عاقلة تدعو للتوافق الوطني وللعمل المشترك وتؤكد التزامها بصيانة وسطية المجتمع المصري وحماية حريات المصريين وعدم فرض شئ غريب يتعارض مع الشخصية والطبيعة المصرية.
هذه الأصوات الحكيمة ليست مقصورة علي فصيل سياسي ليبرالي بعينه,إنما هي صادرة من داخل حزب الحرية والعدالة-الجناح السياسي للإخوان المسلمين-عن قيادات الحزب التي سبق أن جمعتني بهم لقاءات بناءة علي مائدة المواطنة أثبتت أن هذه القيادات تقدر أهمية وخطورة مرحلة إعادة بناء مصر وأن هذه المرحلة ملك لكل المصريين وتتسع لهم جميعا بلا أي شكل من أشكال الفرز أو فرض أجندة بعينها علي أي منهم…هذه الأصوات لا يجب أن تترك تذهب أدراج الرياح وعلي سائر الفصائل السياسية الليبرالية أن تلتقطها وتتجاوب معها لتنسيق العمل الوطني في المرحلة الدقيقة المقبلة.
مهما كانت النتيجة التي ستفضي إليها انتخابات مجلس الشعب-ومن بعدها انتخابات مجلس الشوري-ستظل تجربة الانتخابات بآلياتها الجديدة تجربة ثرية نجحت في إخراج المصريين من اللامبالاة إلي المشاركة بفاعلية وحماس في صندوق الانتخاب…لكن سيظل التحدي الحقيقي مرهونا بنجاحهم في التلاقي حول مائدة العمل الوطني لإنقاذ مصر.