مقال الأسبوع الماضي الذي كان يحمل ذات عنوان هذا المقال ويناقش ظاهرة الاندفاع غير المدروس إلي تغيير أسماء الأماكن,أطلق ردود أفعال تدل علي وجود مشاعر متراكمة مكتومة إزاء تلك الظاهرة.فالناس لا تفهم خلفيات القرارات التي تصدر لتغيير الأسماء وتسبب لهم ارتباكا في تعاملاتهم وازدواجية في واقعهم المعاش,إذا يضطرون إلي الرضوخ للقرارات في محرراتهم الرسمية ومكاتباتهم بينما يستمرون بحكم العادة أو تعبيرا عن رفض التغيير في استخدام الاسم السابق في تعاملاتهم الحياتية اليومية…وفي هذا الصدد يتندر البعض بأنه يضطر إلي استخدام الاسمين معا-السابق والمعدل-للتدليل علي المكان,الأمر الذي أفرز علي مر السنين كما هائلا من أسماء الأماكن المزدوجة المشتملة علي اسمين ثانيهما مقترن بتعبيرسابقا.!!
ويتساءل الكثيرون:لماذا هذا اللغط والتعقيد؟إن الثبات والاستقرار في أسماء الأماكن سواء كانت الدول أو مدنها أو شوارعها أو ميادينها أو حتي سائر عناصر جغرافيتها من جبال ووديان وبحيرات وأنهر وغيرها وغيرها,من أهم انعكاسات التعبير عن تاريخها وحضارتها وميراثها الثقافي,فكيف يكون التفريط بسهولة في هذه العناصر التي تشكل هويتها؟….ونحن في مصر نمتلك الكثير الغزير والثمين من كل ذلك,فهل توقفنا عن إدراك هويتنا والاعتزاز بها؟!!….هل نضبت منابع ثقافتنا وتآكل تاريخنا في داخلنا حتي رحنا نتخبط مستوردين الأسماء من خارج بلادنا لتحل محل الأسماء التي أفرزها تاريخنا؟!!
إنني أشفق علي المسئولين عن إعداد الخرائط في بلادنا-خرائط مصر وخرائط مدنها وخرائط شبكات الطرق فيها,ناهيك عن الأجهزة المسئولة عن وضع اللافتات بالأسماء لكل هذه الأماكن,فماذا هي فاعلة لتواكب التغييرات والتعديلات المستمرة التي تطرأ عليها؟إن المتأمل والراصد لتغيير أسماء شوارع وميادين القاهرة عبر نصف القرن الماضي والجهد الدؤوب الذي يبذل بلا كلل في هذا الإطار سوف يصاب قطعا بالجنون وليس أدل علي ذلك من ازدواجية الأسماء بين جيلين,فكأن كلا منهما يتحدث لغة مختلفة أو يتكلم عن أماكن مغايرة,إذ يستخدم أحدهما باقة من الأسماء للميادين والشوارع تختلف تماما عن الباقة التي يستخدمها الآخر….وهكذا الوضع في الإسكندرية التي كانت درة مدن البحر المتوسط فإذا بأسماء أحيائها وشوارعها وميادينها يعاد إنتاجها مرة أخري لحساب ثقافات جديدة وافدة ودخيلة تطمس هويتها الأصيلة الجميلة…ولعل مثل ذلك نجده في أسيوط وبورسعيد والمنصورة وغيرها من مدننا المصرية العزيزة.
ومن الظواهر الطريفة التي تثبت عدم جدوي الإفراط في تغيير أسماء الأماكن استمرار أهل القاهرة في الإشارة إلي باب الحديد بدلا من ميدان رمسيس وشارع فؤاد بدلا من شارع26يوليو وشارع سليمان باشابدلا من شارع طلعت حرب وميدان تريومف في مصر الجديدة بدلا من ميدان الحسين بن طلال…ولعل الإشارة إلي هذه الأمثلة تدل علي أن المسألة ليست في رفض الأسماء الجديدة فكلها أسماء لمناسبات أو لشخصيات لها قيمتها,إنما المسألة أن ما جبلت عليه الأجيال في تعاملاتها ليس من السهل حملها علي تغييره مهما صدر من قرارات!!…فما بالنا إذا جاءت القرارات تطمس تاريخا وتقدم أسماء لا مدلول لها عوضا عنه؟!!
لذلك يستمر القاهريون في تداول الأسماء التي ألفوها وكذلك السكندريون وغيرهم وغيرهم…..وحتي إذا كان التغيير ملزما ومنطقيا كان يتغير اسم فندق لتغيير شركة الإدارة القائمة عليه,يظل اسم الشركة التي رحلت عن المكان ملتصقا به وكأنه اسم شهرة يستعصي علي التغيير,فحتي يومنا هذا يتحدث الناس عن فندق المريديان وفندق النيل هيلتون وشيراتون الجزيرة وكلها أسماء شركات رحلت وحلت محلها أسماء شركات أخري…أما أعجب الظواهر التي تثبت ما للأسماء المستقرة من رسوخ هي ظاهرة شيراتون هليوبوليس,ذلك الفندق الشهير الذي نشأ في طريق مطار القاهرة الدولي في بقعة كانت ولاتزال في مهدها عمرانيا وقت إنشائه,فاكتسبت المنطقة العمرانية الواقعة خلفه اسمها بين الناس بمدلوله وأصبحت منطقة شيراتون هليوبوليسوتبعت ذلك مساكن ومرافق وخدمات المنطقة فظهرتمساكن شيراتونومسجد شيراتون وكنيسة شيراتونمع باقة ضخمة من المنشآت التي يشار إليها بانتسابها إلي اسم شيراتونبغض النظر عن أسمائها الخاصة….والآن بعد كل تلك السنوات التي تزيد علي الثلاثين رحلت إدارة شيراتون عن الفندق وجاءت شركة عالمية أخري لتديره وتضع عليه اسمها,لكن أتصور أن المسئولين الجدد يشعرون بالكثير من الغيظ لأن الكافة لا يعرفون الاسم الجديد للفندق ويرددون الاسم السابق علي المكان,أما سائر الشيراتونات(!!) التي التصقت بباقي مرافق المنطقة فأظن أنها باقية لن تستطيع أية قرارات محوها أو منع الناس من استخدامها.
إذ أسجل ذلك إنما لأدلل علي أن العبث بالأسماء المستقرة لمجرد التغيير أو لمحو الهوية خطأ كبير لا شأن للناس به….فالأسماء القديمة المستقرة في وجدان الناس لن تمحي بقرارات أو بأوراق رسمية وسيستمر الناس في ترديدها وتداولها لسنوات طويلة بعد التغيير وتكون المحصلة فقط مزيدا من الارتباك والتضارب وانفصام الشخصية!!!