اتصل بي صديق نحو السادسة مساء الأحد الماضي وقال: أسرع بفتح قناةالجزيرة مباشر فهناك أمر جلل يحدث…فتحت القناة المذكورة لأشاهد بثا مباشرا لمتظاهرين في حالة فوضي وتدافع في جميع الاتجاهات وسط الزعيق والصراخ بينما سيارات مدرعة تندفع بسرعات عالية لتخوض وسط الكتل البشرية للمتظاهرين غير مبالية بمن تصطدم ومن توقع أرضا ومن تدهس تحت عجلاتها…ذهلت مما رأيت ولم أستطع استيعاب الموقف فعدت للاتصال بصديقي لأسأله: ما الغرابة في الأمر؟وما هو الأمر الجلل؟ إن القناة تبث تسجيلا لأحداث يوم 28 يناير باكورة أيام الثورة في ميدان التحرير, ذلك اليوم الأسود الذي انقضت فيه أجهزة الأمن التابعة لنظام مبارك علي الثوار وسقط فيه الشهداء تحت عجلات سياراتها وتحت وطأة طلقات رصاصها الغادر. لكن صديقي قاطعني صارخا:لا….ما رأيت ليس تسجيلا ليوم 28يناير, إنه بث مباشر لما يجري حاليا في ماسبيرو أمام مبني التليفزيون, مدرعات الجيش المتمركزة هناك تنطلق في كل اتجاه وكأن مسا من الجنون أصاب الذين يقودونها لأنهم يتحركون بشكل هستيري غير منظم ليطاردوا المتظاهرين الأقباط, ولايتورعون عن الاصطدام بهم وإسقاطهم أرضا ولا يعبأون إذا دهسوهم تحت عجلات مدرعاتهم…كل ذلك يحدث وفي الخلفية تدوي أصوات طلقات الرصاص تصاحبها الصرخات وسقوط الضحايا والمصابين.
ظللت أحملق في الشاشة وقد عقدت الدهشة لساني…تسمرت في مكاني لا أصدق ما أري…كنت أعرف أن هناك ترتيبا لتجمع للأقباط الغاضبين ليسيروا في مظاهرة مقصدها مبني التليفزيون في ماسبيرو -كعادة الأقباط- للتعبير عن احتجاجهم ورفضهم للاعتداء الهمجي الذي وقع علي كنيسة الماريناب بإدفو وأسفر عن هدمها وتدميرها, وتداعيات ذلك من تقاعس الأجهزة الأمنية عن منع الجريمة التي كانت متوقعة ومعروفة سلفا, ثم التصريحات المستفزة التي صدرت عن اللواء مصطفي السيد محافظ أسوان الذي تجاهل الجريمة وتولي تزييف وتشويه ماحدث والتقليل من شأنه علاوة علي إسهامه في تضليل الإعلام والرأي العام.
أيمكن أن يكون ما أري هو المصير الدامي لتلك التظاهرة؟…ماذا حدث حتي تتحرك مدرعات الجيش بهذا الاندفاع الأهوج؟…لا أتصور أن أوامر صدرت للجنود ليفعلوا ذلك, لكن كيف يمكنهم الانطلاق دون أوامر من قيادتهم؟…ووسط تدافع الأسئلة التي تبحث عن إجابات, تنقلت بين القنوات المصرية لأتحقق مما رأيت فوجدت بثاحيا للمظاهرة ولكن لاحظت أن الكاميرات موجهة بعيدا حيث بعض الحشود والسيارات دون تصوير مشاهد هجمات السيارات المدرعة وسقوط الضحايا…وهنا تيقنت أننا أمام تكرار كئيب بائس لأحداث 28 يناير الماضي!!!
زملائي المحررون الذين كانوا في موقع الأحداث وعايشوا تفاصيل تلك المأساة البشعة يعانون من حالة صدمة…ما يرددونه عما رأوه بأعينهم يفوق في بشاعته أحداث 28يناير ولا يجدون أي تبرير مفهوم أو مقبول لما حدث…ويتساءلون في مرارة:ألم يعد الجيش أنه لم ولن يضرب المصريين؟…إذا كانوا يقولون إن الرصاص الحي الذي صرع كثيرا من الضحايا جاء من مندسين اقتحموا المظاهرة, فما تبريرهم لاندفاع السيارات المدرعة التابعة للجيش لتطارد وتدهس المتظاهرين؟…هل اختطفها المندسون أيضا…؟!!.
المشاهد المؤلمة المبكية المرتبطة بهذا الأحد الدامي 9أكتوبر 2011 ستظل محفورة في ذاكرة المصريين-أقباطا ومسلمين-وسوف يسجلها تاريخ الثورة مثلما سجل يوم 28 يناير الأسود…وأقول بكل مرارة:الآن والآن فقط بعد الكارثة والمذبحة التي تعرض لها الأقباط في ماسبيرو يتحرك المجلس الأعلي للقوات المسلحة ليعطي أوامره لوزارة الدكتور عصام شرف لإجراء تحقيق رسمي حول ما حدث…الآن والآن فقط يجتمع مجلس الوزراء بعد أربعة شهور من التنصل من وعود رئيسه السابقة ليعلن عزمه علي إصدار القانون الموحد لبناء دور العبادة…الآن والآن فقط يعلن مجلس الوزراء أنه بصدد تغليظ العقوبات علي جرائم التمييز بين المصريين…للأسف يبدو أن هذا هو قدر مصر ألا يتحرك أي مسئول مهما كانت حتمية التحرك وإلحاحة ومهما كانت التحذيرات من انفجار الموقف وخروجه عن السيطرة…لايتحرك أي مسئول إلا في أعقاب كارثة مدوية تهز الضمير المصري والعالمي!!!
إن صدور القانون الموحد لبناء دور العبادة وتغليظ العقوبات في جرائم التمييز, والالتزام بإلقاء القبض علي الجناة والمحرضين في أحداث كنيسة الماريناب بإدفو, وحتي إقالة محافظ أسوان من منصبه, كل ذلك لن يرفع عن سجل المسئولين في الدولة بكافة مستوياتهم مغبة التقاعس عن تحمل المسئولية والتباطؤ والتسويف في معالجة القضايا المتفجرة والإخلال الجسيم بفرض القانون والحفاظ علي هيبة الدولة وسيادتها…وستظل آثار دماء ضحايا مذبحة 9 أكتوبر عالقة بأياديهم لن تمحي.