كل أسبوع يمر من عمر ثورة 25 يناير- التي أذهلت العالم- دون أن تعود وتيرة الحياة والعمل والاستقرار إلي طبيعتها يحسب ضد هذه الثورة…كل أسبوع ينقضي ومعه رصيد متزايد من الفوضي والانفلات والغياب الأمني يعد مؤشرا مقلقا علي مسار هذه الثورة…كل أسبوع يمضي وتتصاعد معه درجة سطوة الغوغاء علي الشارع وتحديهم للقانون وانطلاقهم بلا رادع يروعون الأبرياء ويعترضون سبيل المارة في الطرقات ويقتحمون المباني ليحرقوها وينهبوها إنما هو رصيد سلبي يحسب ضد الثورة…وأخيرا كل أسبوع يمر ينتصر فيه جموح الغضب علي حكمة العقل يطرح تساؤلا خطيرا مسكوتا عنه:هل بدأت الثورة تأكل نفسها؟!!.
حفل الأسبوع الماضي بأحداث كثيرة ذات مدلولات مؤسفة تمثل ردة وانتكاسة عن مسار العمل علي تأسيس دولة مدنية حديثة, الحكم فيها للقانون وحده ويتساوي أمامه جميع المواطنين وكان من بين المؤشرات علي ذلك الآتي:
**الإطاحة بحكومة أحمد شفيق وإجباره علي تقديم استقالته تحت وطأة الضغوط التي جاءت من اتجاهين:الاتجاه الأول إصرار ثوار ميدان التحرير علي عدم الإبقاء علي رئيس للوزراء ينتمي إلي نظام مبارك, وذلك الإصرار لم أجد له مبررا ولا عقلا لأنه يتجاهل تاريخ الإنجازات الناجحة للفريق أحمد شفيق ورصيده الناصع المنزه عن الفساد, فكان أن خسرت مصر بخروجه خبرة وطاقة وحكمة مطلوبين بشدة في مرحلة إقالتها من عثرتها الاقتصادية وتعويض ما لحق بها من خسائر ضخمة. أما الاتجاه الثاني الذي أتصور أنه كان بمثابةالقشة التي قصمت ظهر البعير فكان في الهجوم الأهوج الذي شنته حفنة من المثقفين بقيادة الروائي علاء الأسواني علي أحمد شفيق في لقاء تليفزيوني حفل بالاستفزاز وغاب عنه العقل, ومازلت أري أنه ما كان لأحمد شفيق أن يقبل المشاركة في ذلك اللقاء, لكن للأسف حدث ما حدث وتحمل من جراء ذلك الكثير من التجاوزات والإهانات ما أدي به إلي إيثار الابتعاد…فإذا كان يمتلك من سعة الصدر ما يجعله يغض النظر عن انفلات الشباب واندفاعهم العاطفي, فماذا يستطيع أن يتسلح به في مهمته العسيرة الشاقة إذا جاءته السهام من المحسوبين علي عقل مصر ورشدها؟
قلبي مع الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء الجديد في مهمته البالغة الصعوبة, فهو إذا كان يمتلك الخبرة والدراية اللتين تؤهلانه للاضطلاع بالمسئولية- بالإضافة إليالأيزو الذي حصل عليه من الشباب والثوار باعتباره من ضحايا النظام السابق -لكنه بالقطع لا يمسك بعصا سحرية لعمل معجزات إنما يحتاج إلي كل المؤازرة والتعاون من أعضاء حكومته ومن المصريين جميعا…أما الفريق أحمد شفيق فأود أن أشكره عما قدمه لمصر وأقول له:رب ضارة نافعة, قد نلتقي مرة أخري لنؤازرك كمرشح مستحق لرئاسة الجمهورية.
**لا أتصور أن يكون من إنجازات الثورة الانفلات والغوغائية والضرب بالقانون عرض الحائط…صحيح أن المصريين عاشوا سنين طويلة تحت حكم وبطش دولة بوليسية رهيبة استخدمت أساليب وحشية في قمعهم وتعقبهم وإرهابهم, لكن لا يمكن أن تكون إحدي أدوات الثورة علي ذلك الواقع أن ينفس الثوار عن غضبهم بأن يكونوا هم أنفسهم دولة بوليسية تغتصب صولجان القانون وتستحل أن تفتك بالمواطنين الأبرياء العزل, وتتولي تصفية الحسابات بالانتقام الوحشي من كل من تبين انتماؤه أو انتسابه إلي الجهاز الأمني السابق. إن مسارات تعقب جميع الفاسدين ورموز السلطة والسطوة جارية علي قدم وساق وبكل شفافية, وسوف يأخذ القانون مجراه في التحقيقات والمحاكمات وتقديم الجناة إلي العدالة…ولا يستقيم مع ذلك استباحة أعراض أو أمن أو ممتلكات مواطن مصري من جانب الجماهير الغاضبة لمجرد اكتشافها أنه ضابط شرطة فتنطلق تلك الجماهير في التنكيل به بوحشية تصل إلي الفتك متغافلة عن براءته وحقه الأصيل في المساءلة قبل إنزال القصاص.
ومانتج عن هذا الواقع المؤلم هو مشهد أكثر إيلاما من انعدام الأمن والأمان في الشارع المصري, حيث أصبح إرهاب الغوغاء والبلطجية بديلا عن إرهاب الأجهزة الأمنية, وآثرت قوات الشرطة الابتعاد عن مواجهة الجماهير طلبا للسلامة بينما وقفت القوات المسلحة تحاصر المناطق الملتهبة دون التدخل لإيقاف العنف وردع المنفلتين…وذلك المشهد يشكل لغزا مخيفا لا يستطيع أحد أن يدرك مداه أو مغزاه…رأينا ذلك في جمهورية البلطجية التي استولت علي نفق شبرا لمدة 48ساعة ناشرة الهلع والرعب بين المواطنين الذين لزموا مساكنهم, وقاطعة الطريق علي شتي وسائل المرور…بحثت بين ما ينشر حول أحكام المحاكم العسكرية ضد المتهمين بالبلطجة والسرقة عن حادث نفق شبرا فلم أجد شيئا حتي الآن!!
**أيضا حادث الاعتداء الوحشي علي كنيسة القديسين بأطفيح يستدعي للذكراة أحداث فرشوط منذ عامين لأن السيناريو واحد: افتضاح أمر علاقة غير مشروعة بين رجل مسيحي وفتاة مسلمة- وذلك جرم آثم يحدث كل يوم في ربوع مصر- لكن لمجرد كون الرجل مسيحيا والفتاة مسلمة تنطلق جحافل الغوغاء لمهاجمة الأقباط وكنيستهم وتستبيح التدمير والسلب والنهب والحرق…كنت أعتقد أن هذا المشهد الكريه قد ولي بلا رجعة بعد 25يناير ورسوخ روح التكاتف الوطني بين المصريين التي تفجرت في أعقاب تفجير كنيسة سيدي بشر بالإسكندرية عشية رأس السنة, لكنه عاد ليطل بوجهه القبيح مرة أخري…الفرق هذه المرة أنه بينما كانت أجهزة الشرطة تقف متفرجة في السابق ولا تتدخل إلا بعد انتهاء الأحداث, وقفت وحدات القوات المسلحة متفرجة هذه المرة ولم تتدخل بدعوي أنها لن تضرب المصريين!!
***وأتساءل: هل بدأت الثورة تأكل نفسها؟!!