لست في معرض التعقيب علي أحكام القضاء لأن تناول أحكام القضاء بالفحص أو النقد من اختصاص العاملين في حقل العدالة وله المسارات القانونية التي يتم اتباعها…لكن يجب أن نعترف أن هناك لغطا دائرا في أوساط كثيرة سببه الحكم الذي صدر الأسبوع الماضي عن المحكمة الإدارية العليا بتأييد حكم سابق أصدرته محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة بإلزام الكنيسة المصرية باستخراج تصريح زواج للمسيحي المطلق من زوجته..وكان الحكم الأول بدوره مثار استغراب,فالأمور المتصلة بالأحوال الشخصية للمسيحيين تعد من اختصاص الكنيسة وهي وحدها صاحبة الحق والسلطة في سن التشريعات الحاكمة لمسائل الأحوال الشخصية حتي تكون متفقة مع العقيدة المسيحية وكتابها المقدس…ومن الطبيعي أن تتقدم الكنيسة بتشريعاتها في هذا الخصوص إلي المؤسسات المعنية في الدولة لاتخاذ اللازم نحو إصدار القوانين واللوائح المنظمة لتلك التشريعات لتحقيق المواءمة المطلوبة بين مقتضيات شريعة المسيحيين والأدوات القانونية التي تستخدمها السلطة القضائية في الفصل بين المسيحيين في مسائل الأحوال الشخصية.
أقول ذلك لأقطع الطريق علي من يحلو له أن يدعي أن الكنيسة المصرية تريد أن تكون فوق القانون…لا لم تكن أبدا الكنيسة المصرية فوق القانون,لكن باعتبارها السلطة الدينية التي تمثل المظلة الروحية لعبادة وشريعة المسيحيين فهي صاحبة السلطة في وضع شرائع الأحوال الشخصية لهم,وكذلك في تعديل تلك الشرائع حسبما تري,وما علي السلطة التشريعية إلا أن تسارع بإجراء أي تعديل مطلوب من الكنيسة حتي تضع في حوزة السلطة القضائية الأدوات القانونية المتفقة مع شرائع الكنيسة درءا لمغبة صدور أحكام مبنية علي أدوات قانونية قديمة فقدت صلاحيتها ولم تعد الكنيسة تعترف بها.
إذن هناك منظومة من العلاقات تربط المؤسسة الدينية بسلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية وهي منظومة مهمة ذات طبيعة خاصة لا تحتمل التباطؤ أو التلكؤ أو التسويف,لأن ذلك يكون له مردود سلبي علي مصالح المواطنين,ففي حالتنا الكنيسة هي المؤسسة الدينية,وعندما استشعرت الكنيسة أن هناك جوانب في قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين المعروف بلائحة عام1938 تتطلب التعديل قامت عام1980 بإعداد اللائحة المعدلة-كما صرح قداسة البابا شنودة- وتقدمت بها إلي السلطة التنفيذية-وفي حالتنا إلي وزير العدل-حتي ترفعها السلطة التنفيذية إلي السلطة التشريعية-وفي حالتنا إلي مجلس الشعب-ليتولي المجلس إصدار اللائحة المعدلة المتفقة مع متطلبات الكنيسة في تشريع الأحوال الشخصية للمسيحيين,فتكون بذلك هي الأداة المعدلة التي توضع في يد السلطة القضائية حتي تأتي أحكامها غير متعارضة مع شرائع السلطة الدينية.
لكن ماذا فعلت السلطة التنفيذية باللائحة المعدلة عام1980؟…لأسباب نجهلها احتاجت الكنيسة أن تعيد تقديم تلك اللائحة المعدلة بعد مضي ثمانية عشر عاما في عام1998-أي منذ عشر سنوات-وكان الإنجاز الذي تحقق مع إعادة تقديم اللائحة المعدلة أنها جاءت حائزة علي موافقة جميع رؤساء الكنائس المسيحية في مصر بالإضافة إلي موافقة ممثلي الكنائس التي تتبع رئاسات خارج مصر,وذلك في حد ذاته كان إنجازا ملفتا ومهما للتأكيد علي وحدة الكنائس المسيحية في مصر بخصوص نظرتها إلي مسائل الأحوال الشخصية للمسيحيين وعدم وجود اختلاف أو تعارض بينها في هذا الإطار..ومع ذلك لم تتحرك السلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل ولم تستشعر مسئوليتها في الإسراع بإحالة اللائحة المعدلة إلي مجلس الشعب وبقيت تلك اللائحة حبيسة الأدراج -أو في قول آخر حبيسة ثلاجة التجميد-واستمر القضاء في الفصل في قضايا الأحوال الشخصية للمسيحيين استنادا إلي الأداة التشريعية القديمة المتروكة في حوزته,الأمر الذي أفرز التعارض بين أحكامه وما تقبله الكنيسة,كما أفرز مناخا حساسا متأزما ناتجا عن أحكام تنص عليإلزام الكنيسة…ورد فعل الكنيسة بأنهاغير ملزمة….!!
هذه الصورة المريضة التي تظهر الكنيسة علي أنها متمردة علي حكم القضاء أو أنها تريد أن تكون فوق القانون,المسئول عنها هو التلكؤ الرسمي من جانب وزير العدل,فكيف يبقي مشروع قانون علي درجة أهمية وحساسية مثل لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين حبيس ثلاجة التجميد طوال سنوات عشر منذ إعادة تقديمه لم يجد طريقه إلي مجلس الشعب حتي الآن؟وكيف تعد الكنيسة ملزمة بتنفيذ أحكام قضائية مبنية علي لائحة قديمة طالما صرحت الكنيسة أنها لم تعد تعترف بها وتطلب تعديلها؟…والآن قبل أن تتردي الأمور وتحدث مواجهة بين السلطة القضائية والكنيسة,هل يسارع وزير العدل بإخراج مشروع قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين من وزارته لتتقدم به الحكومة إلي مجلس الشعب لإصدار القانون المطلوب قبل فض هذه الدورة البرلمانية؟…
وهل يبادر نواب الشعب بالتقدم بطلب إحاطة إلي وزير العدل في هذا الخصوص لتفادي انفجار أزمة تلوح بوادرها في الأفق؟
إن الأمر المسكوت عنه هو التقاعس البشع من جانب السلطة التنفيذية ومن بعدها السلطة التشريعية في تحريك الأمور الخاصة بالمسيحيين أو بالكنيسة مهما كانت تلك الأمور ملحة أو علي جانب كبير من الأهمية والحساسية…وليس أدل علي ذلك-بالإضافة إلي قانون الأحوال الشخصية-سوي الصمت المريب علي إصدار القانون الموحد لدور العبادة,والتجاهل الغريب لإصدار قانون زي رجال الدين المسيحي,بالرغم من تراكم المشاكل الناجمة عن استمرار غياب هذين التشريعيين…أما السلطة القضائية فرفقا بها لأنها لم تخطئ عندما احتكمت إلي التشريعات القانونية المتروكة في حوزتها.