جريمة اغتيال السيدة مروة الشربيني في ساحة المحكمة في مدينة درسدن الألمانية بداية هذا الشهر هزت بعنف الرأي العام المصري وفجرت ردود أفعال متباينة أكثرها -كما تعودنا- عاطفي انفعالي مندفع ومحرض, وأقلها عقلاني يدعو إلي التروي وعدم الشطط.
وقبل أن أمضي في طرح رؤيتي فيما يخص عنوان هذا المقال أجد لزاما علي أن أسجل -درءا لسوء الفهم المغرض- أنني تألمت بشدة للجريمة البشعة التي أودت بحياة مروة الشربيني وأدت إلي إصابة زوجها برصاص البوليس الألماني, وأصلي أن يتماثل الزوج المكلوم للشفاء أن يتماسك في هذه المحنة ليتمكن من رعاية طفله البرئ الذي كتب عليه أن يعيش تطارده تفاصيل ذلك الحادث المشئوم.
أثق أن القضاء الألماني يستطيع مباشرة العدالة والقصاص في قضية مروة الشربيني, لكن تبقي مشكلتنا الأزلية في التناول الإعلامي للقضية, حيث يظهر القدر العجيب من إحساسنا بالعنصرية واندفاعنا إلي توسيع مجال الجريمة ليتجاوز نطاق المجرم ويمتد إلي إدانة الشعب الألماني, بل والشعوب الأوربية برمتها, الأمر الذي يجعلنا نندفع لنصور لأنفسنا أبعاد مؤامرة عالمية تحاك ضدنا ومن ثم نمضي لنرسم السبيل للدفاع عن أنفسنا فنكون كمن يحارب طواحين الهواء.. كل ذلك ونحن لا ندرك أننا نكيل بمكيالين ونطبق معايير مزدوجة لا تصلح لأن ترتد علينا إذا شاءت الأقدار وكان المجرم مصريا والضحية أجنبية.
نحن في مصر عانينا أكثر من غيرنا من جراء الأحداث الإرهابية التي ارتكبتها الجماعات التي تطلق علي نفسها إسلامية وتدعي الجهاد من أجل الإسلام, امتد نشاط هذه الجماعات إلي المصريين الأقباط وإلي البنوك ثم إلي السياح الأجانب.. ولم يخف علي أحد أن أهم أهداف تلك الجماعات كان ترويع الشعب وإحداث بلبلة والإضرار بمصالح البلاد ومصادر الدخل القومي, لذلك كان من المهم إزاء أي حادث إرهابي ترتكبه تلك الجماعات أن نسارع بإبلاغ وإقناع العالم -وخاصة البلدان التي ينتمي إليها ضحايا الحادث- بأن مرتكبي الجريمة الإرهابية لا يمثلون الشعب المصري بطبيعته السمحة المحبة للأجانب, كما أنهم بادعائهم الجهاد الإسلامي لا يمثلون صحيح الإسلام السمح, بل إنهم إرهابيون مارقون سرعان ما يتم القبض عليهم وتقديمهم للعدالة.. هكذا كنا نفعل وكنا نأمل ألا تمتد آثار الحادث للإضرار بالاستثمار أو بصناعة السياحة, فمصر لا تحتمل أن يأخذها العالم بجريرة حفنة من الإرهابيين الذين يهددون أمنها وسلامها واستقرارها.. يشهد علي ذلك حادث معبد الأقصر عام 1997 والحوادث المتعاقبة التي راح ضحيتها السياح الأجانب في ميدان التحرير وميدان الحسين في السنوات الأخيرة.
لكن الكثيرين ممن كتبوا متأثرين بالجريمة التي راحت ضحيتها مروة الشربيني لم يتمهلوا لئلا ينزلقوا بكتاباتهم في مغبة الكيل بمكيالين وازدواجية المعايير, فجاءت كتاباتهم تذكرنا بأننا لم نكن نتمني عندما مررنا بذات الموقف أن يكتب الآخرون موجهين سهامهم إلينا جميعا وإلي بلادنا بوضعها في قفص الاتهام!!.. تعالوا نتأمل نماذج مما كتب في هذا السياق:
* * كتب الدكتور عبدالعليم محمد في الأهرام بتاريخ 13 يوليو الجاري تحت عنوان الخطاب العنصري وراء الجريمة مقالا تضمن الآتي: .. يجب محاكمة الخطاب العنصري ومروجيه من الساسة المتعصبين, عبر دعم الخطاب الذي يدعو إلي التسامح والمساواة وتأكيد الكرامة الإنسانية بصرف النظر عن العرق والجنس والزي والثقافة والديانة.. ولا شك في أن حصيلة الخطاب العنصري تسمح بانهيار الروادع الأخلاقية التي تحظر العدوان علي الأشخاص بسبب لونهم وديانتهم وثقافتهم, وتسهل للقتلة من العنصريين والمتطرفين الأوربيين التحرر من تلك القيود الأخلاقية والإنسانية العامة, حيث يعتبر القاتل العنصري نفسه نتيجة هذا المناخ أقرب إلي مبعوث العناية الإلهية لتخليص المجتمع من تلك الوجوه المخالفة والمختلفة, بل ربما يلقي القاتل العنصري أشكالا من المساندة المضمرة والخفية أو العلنية من قبل المتعاطفين معه في الدوائر التي تتبني الخطاب العنصري…. لم أستطع أن أمنع نفسي من توجيه نفس الخطاب وذات المفاهيم إلي السلطات المصرية لتتحمل مسئوليتها إزاء ما يتعرض له الأقباط أو السياح الأجانب من هجمات نتيجة تقاعسها عن مواجهة كافة أشكال الفكر العنصري المريض وعزلها وعدم السماح لها بأن تهرب بجرائمها.
* * كتب نقيب الصحفيين الأستاذ مكرم محمد أحمد في الأهرام بتاريخ 18 يوليو الجاري تحت عنوان: رؤية مغايرة لحادث الشهيدة مروة الشربيني مقالا تضمن الآتي: ..من المؤسف أن الحكومة الألمانية تجاهلت الحادث لعدة أيام لعله يمر دون مضاعفات جسيمة, ولم تحرك ساكنا إلا بعد أن وضح لها حجم الغضب الشديد في الشارعين العربي والإسلامي, وداخل الجالية المسلمة في ألمانيا, ساعتها فقط تحركت الحكومة, أدانت الاغتيال وساندت التظاهرة الشعبية التي جمعت الجاليات المسلمة والأمان الذين ساءهم الحادث أمام محكمة درسدن.. وأظن أن الحادث أمسك بالصحافة الألمانية متلبسة بارتكاب جريمة مهنية بخرقها المتعمد للقواعد والأصول في ضرورة التعامل مع الأحداث بشكل موضوعي حيادي دون اعتبار لانتماءات العرق أو اللون أو الدين… هنا أيضا لم أستطع أن أمنع نفسي من استدعاء موقف الحكومة المصرية والإعلام المصري إزاء انفجار الأزمات والجرائم التي حاقت بالأقباط والسياح وكيف كان رد الفعل الرسمي من جانب المسئولين والإعلام دائما يتسم بالتمهل والتعتيم واختلاق الأعذار الواهية للجاني لتبرير جريمته!!!
* * تلقيت بكثير من التقدير ما كتبته الأستاذة أمينة شفيق في الأهرام بتاريخ 19 يوليو الجاري تحت عنوان: التعتيم في علاقتنا بالغرب.., حيث قالت: ..إننا نقع في الأخطاء نفسها التي نطالب الآخرين بتجنبها إزاء تصرفات البعض منا تجاههم, فنحن باستمرار نطالب الغرب والغربيين بعدم التعتيم عندما يتم الهجوم عليهم من البعض منا, نقول لهم إننا كمسلمين لسنا جميعا إرهابيين أو عنصريين أو متعصبين, نحن شعوب مسالمة عادية يخرج من صفوفها الإرهابي والمتعصب والعنصري.. فلابد ألا نبادر نحن بالتعتيم وإطلاق الاتهامات جزافا علي الشعب الألماني كله بالرغم من بشاعة الحادث الذي أودي بحياة مروة الشربيني وحزننا جميعا عليها…. أحسنت الأستاذة أمينة شفيق في رؤيتها العاقلة الثاقبة وفي شجاعتها في التصدي لموجة عاتية انطلقت لتدين شعبا بأكمله بل قارة علي امتدادها, ثم سولت هذه الموجة لنفسها أن تفرض رقابتها ووصايتها علي السلطة القضائية الألمانية وهي لا تدري كم تكيل بمكيالين, لأن ذلك لو حدث تجاه مصر من دولة أخري أو من إعلامها إزاء جرائم مماثلة ليست بعيدة عنا سوف تنطلق الحناجر صارخة مستنكرة التدخل في شئوننا الداخلية وانتهاك سيادتنا الوطنية!!!