أخذت زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما للقاهرة في مستهل هذا الشهر حقها من التكهنات والتوقعات التي سبقتها ومن التحليلات التي أعقبتها حتي إن من الأمور التي لم نعتدها في بلدنا أن يقوم جهاز تابع للدولة بدراسة لقياس الأثر الذي أحدثته الزيارة علي الرأي العام – حيث أوضح استطلاع للرأي أجراه مركز معلومات مجلس الوزراء حدث تحول إيجابي وتفاؤل في صفوف المصريين بالنسبة لنظرتهم إلي أمريكا وتصديقهم للرئيس أوباما وتطلعهم إلي مستقبل أفضل يربط بين أمريكا والعالم الإسلامي.
تحدثت الأسبوع الماضي عن المضمون السياسي لزيارة أوباما وخطابه في جامعة القاهرة, واليوم لا أدع تلك الزيارة تمضي دون أن أسجل بعض التأملات المتصلة بها – بعيدا عن السياسة – التي تستحق التسجيل وتستوجب اتخاذ قرارات شجاعة, فليست القرارات الشجاعة والصعبة مقصورة علي ما طالب به أوباما أطراف الأزمات السياسية, إنما هي تمتد إلي الكثير من جوانب الواقع الذي نعيشه.
** القطاعات الي شملتها زيارة أوباما وتحركاته في القاهرة شهدت قبل الزيارة جهودا محمومة لإصلاحها وتجميلها وإعادة تخطيط طرقها بشكل لفت نظر المصريين وأثار غيظهم وغيرتهم في نفس الوقت, فمهما كانت قيمة الضيف ومنزلته في نظر الإدارة المصرية, من الأفضل أن تجري تلك الجهود بمعدلات ثابتة منتظمة لصالح المواطن المصري أولا ولصالح صحة وجمال العاصمة المصرية ثانيا, وليس أن تتم فقط بسبب زيارة رئيس أو مسئول فتكون النتيجة أن يتحسر المواطن المصري علي حرمانه من ذلك الاهتمام وتلك الخدمات وتتهكم وسائل الإعلام المحلية والعالمية علي ذلك السلوك من جانب السلطات المصرية التي تحاول تجميل الصورة مؤقتا حتي يرحل الضيف ثم تعود الأمور إلي سابقتها من اللامبالاة وعدم الاهتمام.. وإذ أتأمل هذا المشهد برمته أرجعه إلي ثقافة مغروسة في الوجدان المصري وفي البيت المصري هي ثقافة غرفة الضيوف, حيث تكمن الواجهة المرتبة والمنمقة التي يرتادها الضيف بينما يكون حال باقي أرجاء البيت غير ذلك, ومن استطاع من الأسرة المصرية المعاصرة التغلب علي ثقافة غرفة الضيوف حقق إنجازين مهمين في آن واحد: أولهما أنه أصبح يستقبل ضيوفه في ذات المكان الذي يعيش فيه بشكل طبيعي, وثانيهما أنه أعطي أهل بيته حقهم في الاهتمام والنظام والنظافة والصيانة والتجديد قبل الضيوف.. أليس هذا واحدا من القرارات الشجاعة التي يجب أن تتخذها الإدارة المصرية لتغيير واقعنا؟
** التنظيم الذي واكب الزيارة تأرجح بين الإجراءات الضرورية الواجبة وبين المبالغات الأمنية, فمن الضروري والمفهوم الإعلان عن الطرق التي شملتها تحركات المواكب الرئاسية وإعلام المواطنين عن فترات إغلاقها وتحديد الطرق البديلة لها, ومن الضروري والمفهوم التنظيم الجاد والصارم لحركة المركبات وانتظار السيارات في مواقع الزيارة خاصة جامعة القاهرة التي تم توجيه سيارات القادمين إليها للانتظار في ساحات كلية الزراعة الأقرب إلي ميدان الجيزة, مع توفير عدد وفير من الأتوبيسات السياحية تقوم برحلات مكوكية لنقل المدعوين من أصحاب السيارات إلي قاعة الاجتماعات الكبري بالجامعة قبل الخطاب وإعادتهم إلي سياراتهم بعد الخطاب, ومن الضروري والمفهوم أيضا وضع البوابات الأمنية للتفتيش الذاتي وتفتيش الحقائب والمتعلقات الشخصية عند منافذ الدخول لقاعة الاجتماعات.. وهنا أسجل أن ذلك كله كان يتم في يسر في ظل توجيهات حازمة تغلفها اللياقة والترحيب من جانب جميع القائمين علي النظام سواء من المسئولين عن الأمن أو غيرهم. هذا عن الإجراءات الضرورية الواجبة, أما المبالغات الأمنية التي ما كان يجب إغفالها من جانب المنظمين – مدنيين كانوا أم أمنيين – فهي تخصيص منفذ واحد فقط لخروج جميع الحاضرين من القاعة الكبري بعد انتهاء خطاب أوباما وكذلك منفذ واحد فقط لتفريغ موقع انتظار السيارات في كلية الزراعة, وإذا كان هذا الأمر يصلح عند الدخول حيث يصل الناس تباعا علي مدي ساعات, فإنه لا يصلح إطلاقا عند الخروج عندما يغادر الجميع المكان في وقت واحد… هذا المشهد للتزاحم والضيق والتدافع يثير تساؤلا خطيرا عن الاستعداد لإخلاء المكان في حالة أي طارئ, وفي هذا الصدد لا أذكر رؤية إشارات لأبواب خروج للطوارئ.. ولا يمكن طبعا أن أترك موضوع المبالغات الأمنية دون أن أذكر الحكايات التي تناقلها من شاءت أقدارهم أن يسكنوا أو يعملوا في المباني المحيطة بالأماكن والطرق التي شملتها الزيارة حيث ردد الكثيرون منهم أنهم تلقوا تعليمات أمنية صارمة بإخلاء الشوارع من سياراتهم وعدم فتح أي نوافذ أو الوقوف في الشرفات, وكانت تلك التعليمات مثار ضيق للبعض وتندر للبعض الآخر.. وهذه واحدة من القرارات الشجاعة التي يجب أن تتخذها الإدارة المصرية أيضا لتغيير واقعنا.
** البساطة والتلقائية والسلوكيات العفوية التي غلفت زيارة أوباما للقاهرة وروحه المرحة لفتت أنظار المصريين وأسرت قلوبهم, فهذه الزيارة لم تكن عطلة شخصية يزور فيها أوباما مصر بعيدا عن الرسميات, إنما هي زيارة رسمية بجميع المقاييس استقبله فيها الرئيس مبارك في قصر القبة الذي دخله موكب أوباما وسط حرس شرف وعزف السلامين الوطنيين الأمريكي والمصري وغير ذلك من شتي مقتضيات البروتوكول.. لكن هذا كله لم يمنع أوباما من إظهار بساطته ومرحه, حتي إن الحاضرين في القاعة الكبري بجامعة القاهرة حين اقترب موعد وصوله جلسوا يترقبون الموكب الحاشد لدخوله فإذا بهم يفاجأون به يمشي منفردا بلا مقدمات داخلا إلي خشبة المسرح المعد لإلقاء خطابه وملوحا للحاضرين بابتسامته العذبة.. كما أن سلوكه وملاحظاته وتخليه عن بذلته الرسمية لدي زيارته الأهرامات وارتداءه بدلا منها ملابس أقل ما توصف أنها عادية لا تميزه عن سائر المرافقين له في الزيارة, كل ذلك خلف انطباعات إيجابية عنه لدي المصريين وأزال الحواجز النفسية التي كان من الطبيعي أن تفصلهم عن رئيس أقوي دولة في العالم.. أليست هذه هي الأخري واحدة من القرارات الشجاعة التي يجب أن تتخذها الإدارة المصرية؟