بقلم-يوسف سيدهم:
قضية حرية التعبير من القضايا التي أصبحت تثار بمعدل متزايد هذه الأيام,فبالرغم من توفر مساحة غير محدودة لحرية التعبير وانكماش الخطوط الحمراء التي لا يتجاوزها الحكماء إلي أضيق نطاق,لا يكاد يمر شهر إلا ونقرأ عن دعوي منظورة أمام القضاء يتهم فيها طرف الطرف الآخر بالسب والقذف في حقه أو تشويه سمعته بمعلومات مغلوطة أو بترديد شائعات مضللة ومقلقة للرأي العام…وتتوالي أحكام القضاء في تلك الدعاوي سواء المتشدد منها أو الذي يتم تخفيفه من الحبس إلي الاكتفاء بالغرامة المالية,لكن تظل المشكلة هي:أين الحقيقة؟…وكيف تتناولها الأقلام في الصحافة؟
أمامي دراستان صدرتا الشهر الماضي,تعالجان بجدية ظاهرة الكتابة الصحفية ومدي توافقها مع المعايير الواجب مراعاتها في مجال إعلام الرأي العام وتشكيل قناعاته والتأثير فيه:
الأولي دراسة صادرة عنمركز أندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف,بعنوانحرب البسوسضمن مشروع أكبر لرصد تجاوزات الصحافة تحت اسمعين علي الصحافة…
والثانية دراسة صادرة عن المجلس الأعلي للصحافة-لجنة تقرير الممارسة الصحفية,في صورة تقرير دراسة حالة عن معالجة الصحف القومية والحزبية والخاصة لحادثة مقتل الفتاتين(هبة ونادين) بمدينة الشيخ زايد منذ شهرين,وهي الحادثة التي هزت الرأي العام مرتين:مرة لدي وقوع الجريمة البشعة التي أودت بحياتيهما,ومرة ثانية عند تكشف ملابسات الجريمة والقبض علي مرتكبها ومعرفة دوافعه,وما روع المجتمع بعد ذلك من هول المعلومات المغلوطة والافتراءات التي كانت قد نشرتها الصحف حول الجريمة,وكلها تفتقر إلي الأدلة وتندفع بلا أدني مسئولية مهنية إلي تقديم مواد مثيرة,تسولا لزيادة التوزيع علي حساب الحقيقة,وعلي حساب سمعة وشرف الضحيتين.
حرب البسوسدراسة مهمة وشيقة لأنها المرة الأولي-حسب علمي-التي تعني فيها دراسة برصد تجاوزات وانتهاكات الصحفيين والصحف ضد بعضهم البعض,وتلك مفارقة لا تخلو من مدلولات ملفتة,إذ بينما تسعي الصحف إلي معرفة الحقيقة وتقديمها للقارئ بأقصي ما يمكن من مصداقية وتدقيق.بينما ينادي الصحفيون بحرية التعبير واحترام حقوق الغير,نجد أن انتهاكات الصحف ضد الصحف الأخري وتجاوزات الصحفيين ضد زملائهم الصحفيين قد بلغت مستويات خطيرة من التدني اللفظي واللغوي,علاوة علي انزلاقها نحو معارك كلامية بغيضة,تشمل تقديم معلومات ملفقة وتضليل القراء لمجرد وجود اختلاف في الرأي أو الرؤية.
تعترف الدراسة بعورة خطيرة تواجه الصحافة المصرية وهي ندرة المعلومات وغياب شفافية الحصول عليها وتناولها,الأمر الذي يؤدي إلي شيوع الاجتهادات الشخصية من جانب الصحف والصحفيين لاستنتاج -أو تخمين- المعلومات علي حساب الحقائق…وإن كان هذا الخلل الخطير لا يستقيم أن يستخدم مبررا لاختلاق الأكاذيب ونشر الشائعات,إلا أنه يظل عورة مخجلة تعترض شرف ممارسة مهنة الصحافة يتحتم علاجها.
تمضيحرب البسوسفي رصد معايير الأداء الصحفي في مصر من خلال آلية موضوعية للتقييم تفرز إحصائيات واضحة ونتائج رقمية ثابتة بعيدة عن الهوي الشخصي أو الانحياز المغرض,وتخلص إلي أن الممارسة الصحفية في مصر تتسم بدرجة ليست قليلة من ضعف الحساسية تجاه القضايا المتصلة بالتعددية والتسامح ومناهضة العنف والتمييز,كما أنها لا تراعي قيم الحرية والتنوع واحترام الخصوصية,حتي إن مهنة البحث عن الحقيقة تحولت إلي التراشق بالألفاظ والتهجم علي أشخاص الكتاب بدلا من التحاور ونقد الأفكار, علي الرغم من مسئوليتها الجسيمة في توجيه المجتمع نحو قيم الرقي والتحاور عن طريق العقل ومواجهة الفكر بالفكر.
وتظهر النتائج الرقمية للدراسة أرقاما ونسبا مئوية مفزعة لحجم ضلوع الصحف والصحفيين في الانتهاكات والتجاوزات,لا تختلف في ذلك الصحف القومية عن الصحف الحزبية والصحف الخاصة…لكن تجدر الإشارة إلي أن الدراسة سجلت عدم رصد أي انتهاكات أو تجاوزات صادرة عن صحفيي صحيفتي وطني والخميس وكذلك عنمجلة الشباب.وذلك مبعث ارتياح وفخر لي,لأنه لم يأت مصادفة فيوطنيإنما جاء ثمرة التزام صارم وجهاد مستمر لتأصيل معايير تدقيق المعلومة واحترام الرأي الآخر وعفة القلم.
أما الدراسة الثانية الصادرة عن المجلس الأعلي للصحافة فتستمد أهميتها من الحادثة التي انصبت عليها,والتي ثبت من خلال رصد التغطيات والمتابعات الصحفية لها وجود انتهاك صارخ لميثاق الشرف الصحفي ولقانون تنظيم الصحافة الذي يحظر علي الصحيفة تناول ما تتولاه سلطات التحقيق أو المحاكمة بما يؤثر علي صالح التحقيق أو المحاكمة أو بما يؤثر علي مراكز من يتناولهم…أيضا يلزم بعدم نشر الوقائع مشوهة أو متبورة وعدم تصويرها أو اختلافها علي نحو غير أمين وتحري الدقة في توثيق المعلومات ونسبتها إلي مصادرها وعدم اتهام المواطنين بغير وعدم استغلال حياتهم الخاصة للتشهير بهم أو تشويه سمعتهم.
مرة أخري تسجل دراسة المجلس الأعلي للصحافة نماج مخيفة ومخجلة لما نشرته صحف قومية وحزبية وخاصة منتشرة علي رقعة واسعة جدا من خريطة الصحافة المصرية حول حادثة مقتل الفتاتين هبة ونادين,حيث تفصح العناوين والسرد المنسوبان لتلك الصحف حجم التجاوزات المهنية في معالجة التغطيات الصحفية للحادثة وأذلك حجم تشوية الحقيقة وتضليل القرار,الأمر الذي أعود معه لأسجل بارتياح كبير غياب جريدةوطني عن باقة الصحف التي تناولتها الدراسة,وذلك لأنوطني تناي بنفسها عن تغطيات الحوادث والجرائم التي يكتنفها الغموض وعدم جلاد الحقيقية….وتلك قضية أزلية سوف تطل محل جدل في الصحافة في العالم كله وهي ماذا يأتي أولا:السبق الصحفي علي حساب الحقيقة أم الحقيقة علي حساب السبق الصحفي؟