انتهت-ولو إلي حين-الضربة العسكرية الإسرائيلية علي غزة,وقال زعماء إسرائيل,إن الضربة حققت أهدافها في تقويض قدرة حماس علي إطلاق صواريخها علي المستوطنات الإسرائيلية,كما دمرت معظم أنفاق التهريب العابرة للحدود المصرية تحت الأرض.وفي المقابل يقول زعماء حماس,إنهم حققوا انتصارا هائلا علي القوات الإسرائيلية,أدي إلي إجبارها علي وقف إطلاق النار والانسحاب من القطاع!!
أتوقف هنا عند التصريحات الإسرائيلية التي تتحدث عن تدمير الجزء الأكبر من الأنفاق التي حفرها الفلسطينيون تحت الأرض بين قطاع غزة والأراضي المصرية,لأن مسألة الأنفاق ظلت طوال العامين الماضيين مثار تصريحات واتهامات وحساسيات بين مصر وإسرائيل,باعتبارها الشريان الذي يمد قطاع غزة عبر مصر بالكثير من احتياجاته لتعويض الحصار الإسرائيلي للقطاع وإغلاق المعابر الرسمية فوق الأرض.وكان من الممكن أن تظل مسألة الأنفاق محدودة القيمة والحساسية لو اقتصرت علي تمرير وتهريب السلع والبضائع لسد احتياجات قطاع غزة,لكن ما جعلها عالية الحساسية تكرار اتهام الإسرائيليين لها بأنها تستخدم في تهريب الأسلحة للقطاع وما صحب ذلك من اتهام مصر بالتقصير في إيقاف ذلك,الأمر الذي دأبت القيادات السياسية المصرية علي إنكاره…وبات ذلك الملف مسكوتا عنه غير خاضع للنقاش حتي جاءت الضربة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة لتكشف النقاب عن تفاصيله.
في البداية تقول التقارير الصادرة عن الجانب الفلسطيني,إن الأنفاق هي رئة قطاع غزة التي يتنفس منها بعد إحكام الحصار علي المعابر,لكن التقارير تؤكد أنها باتت تستخدم في نقل البضائع فقط وليس الأسلحة,فالأسلحة يصنع الخفيف منها في القطاع نفسه,بينما يتم تهريب الثقيل منها عبر البحر….إذن فلنرفع الحساسية عن هذا الملف ولنبرئ مصر من تهمة غض النظر عن تهريب الأسلحة عبر الأنفاق أو التقصير في إيقاف ذلك.
وقصة الأنفاق قصة عجيبة يقف وراءها عمل دؤوب تحول إلي نشاط منظم وصل بعددها إلي ما يقدره مسئولون فلسطينيون بألف ومائتي نفق,وتحولت إلي شرايين للتجارة يقف وراءها أصحاب مصالح يجنون من حفرها وتشغيلها ثروات طائلة,كما تم تطويرها لتنقسم إلي مجموعات مختلفة التجهيز,فهناك أنفاق تهريب البضائع,وأنفاق تهريب الوقود من البنزين والسولار والغاز الطبيعي,فضلا عن الأنفاق الأفضل تجهيزا والمستخدمة في تسهيل هروب كبار الشخصيات من المقاومة الفلسطينية أو حماس للإفلات من المطاردة والتعنت الإسرائيلية لهم!!
من الطريف أن نعرف أن حافري الأنفاق لا يعدمون حيلة للتغلب علي أية صعوبات تعترض نشاطهم,فهم أولا علي درجة عالية من التخصص في هذا العمل,يستطيعون توجيه الحفر بدقة ومهارة عاليتين وبنسبة خطأ ضئيلة بفضل الاستعانة بأجهزة القياس والتقنيات الحديثة,كما أنهم نحجوا في التحايل علي اكتشاف أجهزة الأمن المصرية لمخارج بعض الأنفاق علي الجانب المصري,وقيامها بإغلاقها,بأن حفروا أنفاقا تتشعب منها مخارج عدة في أكثر من اتجاه.وتقول التقارير في هذا الصدد,إن تعدد وتشعب الأنفاق التي عادة ما تكون مداخلها ومخارجها مختفية أسفل المباني السكنية أو غيرها,قد خلق خوفا لدي السكان الذين يقظنون تلك المساكن من هشاشة التربة التي ترقد فوقها المساكن ومخاطر تعرضها للإنهيار لدي وقوع هزة أرضية أو تفجيرات…ولعل ذلك ما حدث خلال الضربات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة والتي صرح قادة إسرائيل,أنها اشتملت علي غارات جوية متتابعة علي مناطق الحدود بين قطاع غزة ومصر,لقصف سلاسل الأنفاق وتدميرها,وكان واضح أن إسرائيل استعانت في ذلك بصور الأقمار الصناعية وتقنيات التصوير بالأشعة تحت الحمراء,لرصد هذه الأنفاق بدقة واستهدافها بالقصف الجوي لتدميرها.
تأملت كل ذلك بينما الحديث الدائر حولنا يفيض بالجدل حول قضية إعادة إعمار غزة,والتصريحات الصادرة عن شتي القيادات العربية والأوربية والأمريكية,متضمنة تقديرات ضخمة لكلفة إعادة الإعمار,ومنها ما يقدم مساهماته مباشرة لبدء العمل,ومنها علي الجانب الآخر ما يشترط استقرار القطاع عن طريق رحيل حماس عن السلطة أو حل القضية برمتها قبل تقديم مساهماته,لكن لم يتحدث أحد عن إعادة إعمار الأنفاق,وبقي مصيرها معلقا في يد الفلسطينيين أنفسهم,وخاصة طائفة المستفيدين منهم من تلك الظاهرة العمرانية التي تستحق الدراسة!!
الآن وقد رفع النقاب عن كل ما يتصل بأنفاق غزة,وبعد إزالة الحساسيات التي أبقت علي هذا الأمر مسكوتا عنه,وبعد تبرئة مصر من تهمة تسهيل تهريب السلاح إلي غزة وغيرها,وبعدما أتصور أنه جار حاليا بكل همة من إعادة فتحها وتشغيلها وحفر المزيد منها…لماذا لا تسلط الأضواء عليهما ويتم تصويرها وتسجيلها وتشغيلها في النور؟…علي الأقل سيتم في هذه الحالة إحكام الرقابة عليها حتي لا تستخدم في تهريب السلاح,وما يترتب عليه من تكدير السلام وتقويض فرص الحل للقضية الفلسطينية…أم أننا مازلنا نقنع أنفسنا ونحاول أن نقنع العالم بأن الفلسطينيين أقلعوا عن حفرها؟!!!