الإهمال والتقصير واللامبالاة ظواهر متفشية في جميع مجالات حياتنا,ومهما تشدق المسئولون عن جهودهم لاحتواء ذلك تفضحهم الحوادث المؤسفة التي تحدث بين الحين والآخر,والتي تؤكد حقيقتين مؤلمتين:الأولي أن الإنسان المصري لا قيمة له في نظر أولئك المسئولين,والثانية أن لا أحد يحاسب أو يساءل أو يدفع ثمن التقصير الذي يروح ضحيته برئ,فيفلت المخطئ من العقاب!!
القضية التي أتعرض لها اليوم تعود وقائعها إلي ثمانية أشهر مضت,ومن المؤسف أننا الآن نعرف تفاصيلها من الضحية بينما جميع المسئولين المتصلين بأحداثها يلوذون بالصمت ويتهربون من المسئولية,لذلك أدعو إلي فتح باب التحقيق فيها بحثا عن الأمانة العلمية الغائبة والمسئولية الإدارية المفتقدة,علاوة علي الجرم الذي دفعت ثمنه فتاة في عمر الزهور ابتليت بعاهة مستديمة سوف تعيش بها باقي أيام حياتها.
ولا تتعجبوا أن يكون مسرح أحداث قضيتنا أحد معامل جامعة أسيوط,أي أننا داخل صرح علمي قديم ولسنا في ورشة داخل أحد الأزقة أو في مصنع تحت السلم,وذلك يعني أن الأصول العلمية ومعايير الأمان من المفترض أن تكون مرعية تماما,وأن نسبة المخاطرة بأمان الطلبة من المفترض أن تكون منعدمة…الحقيقة المؤلمة تختلف عن ذلك تماما…وأترك ضحيتنا الطالبة مريم يسري أديب ابنة القوصية ذات الثمانية عشر ربيعا تروي تفاصيل مأساتها:
** وظهر الاثنين31مارس2008 كان يوما فاصلا في حياتي…أنا الطالبة في الفرقة الأولي بكلية التربية جامعة أسيوط,دخلت المعمل للمرة الأولي لحضور درس عملي في مادة الكيمياء العضوية,ولم نكن أنا أو زملائي وزميلاتي قد تعرفنا بعد علي طبيعة المواد العضوية التي سنتعامل معها في هذه المادة أو مدي خطورتها,فلم ينبهنا أي من المدرسين إلي ذلك.كان عددنا في ذلك اليوم97 طالبا وطالبة وكان يشرف علينا في المعمل ثلاثة من المعيدين قام أحدهم بشرح التجربة التي كنا بصدد إجرائها,وكانت تتضمن استعمال مادة الصودا الكاوية مع التسخين…وبعد الشرح كان علي كل منا أن يذهب إلي أمين المعمل ليتسلم حفنة المواد الخاصة بالتجربة علي ورقة صغيرة(!!!) ثم ينضم إلي مجموعته الصغيرة لمباشرة التجارب المطلوبة,وشاء قدري أن أكون البادئة بالتجربة العملية,وما إن أضفت مادة الصودا الكاوية في أنبوب الاختبار وشرعت في تعريضها للهب المعملي إذا بالأنبوب ينفجر وتتطاير شظاياه ومحتوياته في وجهي لتحرقه وتدمر عيني اليسري في الحال.
ظللت أصرخ من هول المفاجأة ومن شدة الألم,وتجمع حولي الزملاء والزميلات غير مصدقين ما حدث بينما استمر المعيدون في أماكنهم يواصلون أحاديثهم وكأن الأمر لا يعنيهم في شئ,وبينما كنت أصرخالحقني يا دكتوركان المعيد يصرخ في الطلبةياللا كل واحد يروح مكانه ويشوف شغله!!…اندفعت نحوه صارخة يا دكتور عيني مش قادرة أفتحها والألم هايموتنيفقالإغسلي وجهك بالمية,الألم اللي في عينك شئ طبيعي استحمليه وأمين المعمل ها يجيبلك فازلين حطيه علي الحروق إللي في وجهك…لم تشفع لي توسلات زملائي إلي المعيد أن يتصرف,ولم أستطع تحمل الألم فاندفعت خارج المعمل أبحث عمن ينقذني,وعلمت من زملائي أنه بعد خروجي قال لهمخللوا بالكم الصودا الكاوية بتاكل الحديد والزلط وما بتخليش حاجة!!!…هكذا جاء التحذير متأخرا جدا بعد الكارثة,فلم يقم أحد سواء في الدرس النظري أو في التوجيهات الصادرة لنا قبل إجراء التجربة بتوعيتنا إلي مخاطرها أو حتي بتوزيع نظارات بلاستيكية علينا للوقاية من أخطار الانفجار كما عرفت لاحقا,هذا غير أن المعمل نفسه يفتقر إلي وسائل التأمين ضد تلك المخاطر.
لم أجد أية إسعافات أولية,كما لم أجد أي اهتمام بسرعة نقلي إلي المستشفي الجامعي,وتورم وجهي بسرعة من جراء الحروق وظللت أبكي من شدة الألم والصدمة فاقترح أحد العاملين توصيلي إلي مستشفي الرمد القريب من الجامعة,لكن المعيد بادر بالقولدلوقت الساعة اثنين بعد الظهر,مش هاتلاقي حد هناك,اذهبي إلي الصيدلية…وفي الصيدلية ذهل الصيدلي من حالة وجهي وعيني وأشار علينا أن نسرع إلي أقرب مستشفي,فأسرعنا إلي مستشفي الرمد التابع لوزارة الصحة حيث قالوا لناما عندناش إمكانيات لإسعاف الحالة دي,اذهبوا إلي المستشفي الجامعي,وعندما وصلنا للمستشفي الجامعي كان قد انقضي علي الحادث نحو ثلاث ساعات…أدخلونا قسم الحوادث ومنه إلي قسم الرمد حيث قام الطبيب بوضع بعض المراهم علي أماكن الحروق,ثم قام بغسل العين بمحلول ملحي متكامل -قال إنه من المفترض توفره بالمعمل بالكلية لتأمين المصابين في مثل تلك الحوادث- ثم أشار بضرورة عرضي علي الطبيب الاستشاري الذي سوف يحضر ليلا.
في هذه الأثناء كانت إحدي زميلاتي قد اتصلت بأسرتي التي هرعت من القوصية إلي أسيوط,وأخذوني إلي عياة أحد الأطباء المتخصصين بجامعة أسيوط الذي ما إن قام بفحص عيني حتي قال:جايين بعد إيه؟العين راحت,سأعطيها علاجا لمدة ستة أشهر مع المتابعة اليومية وربنا يستر…بدأت العلاج والمتابعة وأنا أتعذب من الآلام,وترددت علي الأطباء ما بين أسيوط والقاهرة متعلقة بأي أمل في إنقاذ عيني,لكن جاءت الصدمة القاتلة عندما عرفت أن حتي احتمال إنقاذ عيني بزراعة قرنية لم يعد ممكنا أمام شدة الضمور الذي حدث بها,وبدأ الطبيب يتحدث عن استئصال العين وتركيب عدسة تجميلية مكانها لأعيش باقي حياتي بعين واحدة.
أشار علي الطبيب في قسم الرمد بمستشفي جامعة أسيوط بضرورة الحصول علي تقرير رسمي من الجامعة بأن الحادث الذي فقدت علي أثره عيني اليسري وقع في معمل الجامعة…وللأسف الشديد لم يكف ما أصابني بل بدأت أواجه التسويف والمماطلة من المسئولين عن المعمل من أعضاء هيئة التدريس الذين عايشوا تفاصيل الحادث,فذهبت أستنجد بالأستاذ الدكتور عميد كلية العلوم التابعة لها المعامل فقام بتحويل الأمر إلي وكيل الكلية لشئون الطلاب الذي قال لي ما تخافيش,هاتاخدي حقك وقام بإبلاغ النائب السابق لرئيس جامعة أسيوط بالواقعة ملتمسا تدخله,لكن كل ذلك لم يؤد إلي شئ وتم تحويل ملف الأوراق إلي الشئون القانونية بالجامعة والتي اتصلت بي وبزملائي الذين شهدوا رسميا علي الأوراق لأخذ أقوالنا,ثم التزم الجميع الصمت بشمل مريب,حتي علمت أن إدارة الجامعة حفظت التحقيق دون حساب لأحد ودون إقرار حقوقي,فاضطررت في 2008/5/14 إلي تحرير المحضر رقم2008/2113 بقسم ثان أسيوط لإثبات ما حدث.
أنا الآن أعيش مأساة فقد عيني بكل وطأتها القاسية وعذابها الجسدي والنفسي,وفي المقابل تمضي الأمور في الكلية ومعاملها ومستشفاها وكأن شيئا لم يكن,وجميع الأمور علي مايرام…ملف أوراق قضيتي حفظ ومعه دفنت حقيقة مأساتي ومعها كارثة التقصير العلمي والأمني البشع في انتظار انفجار آخر يصيب ضحية جديدة…ولم لا,وقد أفلت جميع المسئولين من المساءلة والحساب؟!!.
***هذه مأساة الطالبة مريم يسري أديب التي فقدت عينها اليسري في معمل كلية العلوم بجامعة أسيوط…أرفعها إلي الأستاذ الدكتور رئيس جامعة أسيوط,ومن بعده إلي الأستاذ الدكتور وزير التعليم العالي للتحقيق فيها,لعل الضمير العلمي والإنساني يصحو لتعويضها عما حاق بها ولتأمين باقي الطلبة والطالبات مما قد يحيق بهم مستقبلا.