في أعقاب كارثة إمبابة الأسبوع قبل الماضي والتي تعد حلقة في سلسلةمحاولات السلفيين والبلطجية اختطاف ثورة 25 يناير, أرسل المجلس القومي لحقوق الإنسان لجنة إلي موقع الأحداث لتقصي الحقيقة حول ما حدث… ذهبت اللجنة وعاينت الأوضاع علي الطبيعة واستمعت إلي العديد من شهود العيان ورجال الدين في المكان وكذلك المصابين في المستشفيات, ثم عادت لترسم صورة دقيقة لمسار الأحداث ولتصدر تقريرا قويا شجاعا يتضمن تحليل الواقع والتربة المريضة الخصبة التي أفرزته وكيفية التعامل مع ذلك الواقع للحيلولة دون تكرار انفجار مثل تلك الأحداث الملتهبة بين الحين والآخر.
قبل الخوض في التقرير, أقول إنه يذكرني بتقرير لجنة العطيفي الذي يعرفه كل المهمومين بأمر هذا الوطن, وهو التقرير الذي صدر منذ أربعين سنة- عام 1971- في أعقاب أحداث الخانكة الرهيبة التي روعت مصر كلها باعتبارها باكورة الهجمات الشرسة علي الأقباط من الجماعات الإسلامية المتطرفة, والتي يؤرخ بها تاريخ اضطهاد الأقباط في النصف الثاني من القرن العشرين, وكان من جراء بشاعة أحداث الخانكة أن شكل مجلس الشعب في ذلك الحين لجنة تقصي الحقائق برئاسة المستشار جمال العطيفي, وصدر عن اللجنة تقرير خطير- مقلق جدا بمعايير ذلك الوقت- يحدد الداء والدواء وينتهي بتوصيات واضحة صارمة لترسيخ حقوق الأقباط والكف عن استهدافهم من جانب المتعصبين والمتطرفين, كما حذر التقرير من مغبة الاستهانة بتفعيل تلك التوصيات من جانب الدولة, لأن في ذلك انزلاقا نحو تردي الأوضاع واستفحالها وانفلاتها خارج نطاق السيطرة… وللأسف الشديد تقاعس مجلس الشعب عن الاضطلاع بمسئوليته تجاه ذلك التقرير ولم يتخذ من الخطوات التشريعية الواجبة أو من آليات مساءلة الحكومة ما يكفل احترام توصيات التقرير, وترك الأوضاع تسوء وتتردي, حتي إن مصر شهدت بعد ذلك كوارث متتالية من الهجمات علي الأقباط ودور عبادتهم وممتلكاتهم وأرواحهم ما يعزوه الكثيرون إلي عدم الحسم منذ البداية وترك السلطتين التشريعية والتنفيذية للمجرمين يفلتون بجرائمهم دون عقاب مما أدي إلي توحشهم واستهانتهم بالقانون وبدولة القانون… وهكذا بقي تقرير العطيفي علامة بارزة في سجل الوطنية المصرية وحقوق الإنسان, ولكن في الوقت نفسه علامة مؤسفة علي روشتات العلاج التي تلقي بها السلطة السياسية في ثلاجة التجميد!!
وأعود لقراءة سريعة في تقرير لجنة تقصي الحقائق التي ذهبت إلي إمبابة الأسبوع الماضي وفي ذهني القرارات الصارمة التي صدرت عن مجلس الوزراء عقب اجتماعه الطارئ بعد الأحداث, وكذلك البيانات المتتالية التي صدرت عن المجلس الأعلي للقوات المسلحة, وكلها تؤكد علي تفعيل القانون وتعقب المجرمين والجناة وعدم إفلاتهم من المساءلة والعقاب… بل أيضا تشير إلي خطورة تحدي هيبة الدولة وتحذر من نفاد صبر السلطة إزاء العبث بأمن الوطن في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها… وأتساءل: هل يلحق تقرير إمبابة بتقرير العطيفي في ثلاجة التجميد, أم يؤخذ بالجدية التي تتناسب مع خطورة الموقف الذي نحن بصدده؟… الأيام المقبلة كفيلة بالرد علي هذا التساؤل, وهذه هي النقاط الأساسية التي تضمنها التقرير:
** لاحظت اللجنة أن الصدام بدأ طائفيا بتجمع مجموعة ترتدي جلابيب وملتحين- يعتقد أنهم من السلفيين- بالإضافة إلي بعض المواطنين من سكان المنطقة حول كنيسة مارمينا بحثا عن سيدة قيل إنها محتجزة فيها, وهو مسلك لا يجيزه أي قانون أو عرف… وأثناء هذا التجمع غير القانوني وغير المبرر حدث إطلاق للنار لم تتحقق اللجنة من مصدره وسوف تظهره نتائج التحقيقات الجنائية, مما أدي لحدوث حالة من التدافع والهياج الجماهيري والصدام ترتب عليها استخدام الأسلحة النارية والبيضاء والحجارة وسقوط عدد من القتلي والجرحي.
** علي أثر ذلك امتدت الأحداث إلي كنيسة السيدة العذراء التي تبعد نحو كيلومترين عن كنيسة مارمينا وجاء ذلك متوافقا مع نداءات تحريضية من الذين تجمعوا في بداية الأحداث بالتوجه إلي الكنيسة وإحراقها… وأمام الكنيسة انقسم المهاجمون إلي مجموعتين: عملت الأولي علي الحيلولة دون تدخل المواطنين لحماية الكنيسة عبر إطلاق الأعيرة النارية عليهم, بينما قامت الثانية باقتحام الكنيسة وإشعال النار فيها وأحرقتها بالكامل.
** خلصت اللجنة إلي عدد من الاستنتاجات مؤداها أن التغييرات الهائلة التي تمر بها مصر حاليا في ظل ثورة 25 يناير, أفرزت ظواهر ارتبطت مباشرة بأحداث إمبابة وأبرزها: الغياب الأمني الواسع الذي أعطي أدوارا متصاعدة للخارجين علي القانون وانتشار الأسلحة بشكل غير قانوني بين أيديهم… هذا بالإضافة إلي بروز تفسيرات دينية متطرفة تطرح إعادة تشكيل المجتمع المصري بما يدع المواطنين المصريين من المسيحيين خارجه باعتبارهم ذميين ليست لهم حقوق سوي حق الحماية الدينية, وقد ـاستشرت هذه التفسيرات لدي بعض شرائح المجتمع عبر الاستخدام المكثف لشتي وسائل الإعلام وخاصة الإعلام المرئي… وفي هذا السياق لا يمكن إغفال تصاعد وتعدد محاولات قوي النظام السابق لإفشال الثورة عبر إثارة الصراعات والصدامات في المجتمع المصري لإظهار أن الثورة هي المسئولة عن حالة الانهيار الأمني.
** بالرغم من حالة الاندماج والانصهار الوطني التي خلقتها الثورة بين المصريين- مسلمين ومسيحيين- إلا أنه لا يمكن إنكار وجود مناخ طائفي متراكم علي مدار العقود الأربعة الماضية ما تزال آثاره وتفاعلاته مستمرة حتي اليوم فيما يعرف بالملف القبطي… وتمت معالجةهذا الملف من جانب السلطات طوال هذه المدة باعتباره ملفا أمنيا عرفيا ولم يتم اللجوء إلي الوسائل السياسية ولا الاجتماعية ولا القانونية لنزع جذوره والتوصل إلي حلول حقيقية له… هذا التراكم وهذه الخلفية أديتا إلي اندلاع أحداث إمبابة ومن قبلها أطفيح وقنا وأبو قرقاص بما يؤكد الحاجة إلي معالجة ذلك الملف بمنهج مختلف عما اتبعه النظام السابق والذي أدي إلي هذه الكوارث.
** خلص التقرير إلي ست توصيات هي:
(1) الإسراع بالقبض علي المتورطين في ارتكاب هذه الجرائم, سواء كانوا أفرادا أو جماعات, وتقديمهم لمحاكمة عاجلة تتوفر فيها قواعد المحاكمات العادلة والمنصفة تأكيدا علي قدرة المؤسسات القضائية الوطنية علي توفير الحماية لجميع المصريين دونما تمييز.
(2) يلتزم المجلس القومي لحقوق الإنسان بمتابعة الإجراءات القانونية المتخذة في هذه الأحداث, وقرر المجلس تعيين مفوض خاص من أعضائه لمتابعة أحداث التوتر الديني وسرعة التعامل معها.
(3) التأكيد علي سيادة القانون ودولة المؤسسات وأن مؤسسات الدولة هي المعنية بتنفيذ القانون وإعماله وليس الأفراد والجماعات.
(4) يدعو المجلس للإسراع في تنفيذ خطط التواجد الأمني في البلاد وخاصة في المناطق العشوائية من أجل عودة الانضباط وتكثيف حماية دور العبادة.
(5) حرية الرأي والتعبير لا تعني بأي حال من الأحوال الدعوة لأفكار أو قيم ضد القيم الإنسانية أو الديموقراطية, ويدعو المجلس إلي ضرورة محاسبة كل من تسبب في, أو ساعد بأي وسيلة علي الدعوة للكراهية أؤ الطائفية أو العنف باسم الدين.
(6) يؤكد المجلس علي ضرورة إصدار تشريع لمكافحة الطائفية أو التمييز علي أساس الدين, ويذكر المجلس بتوصياته السابقة لمعالجة الكثير من الجوانب المتعلقة بالملف الطائفي وفي مقدمتها قانون دور العبادة الموحد, وقانون تكافؤ الفرص ومنع التمييز, وغيرها من التوصيات التي تتعلق بنشر ثقافة حقوق الإنسان وقيم التسامح وقبول الآخر.