أيا كان ما سوف تكشف عنه الأيام من تداعيات مأزق قضية محافظ قنا عند نشر هذا المقال,فإن مضمونه يظل قائما وملحا…فبالرغم من تأجيل احتدام الموقف المتفجر بالإعلان عن تجميد قرار تعيين المحافظ لمدة ثلاثة شهور يبقي هناك كثير من العلامات المقلقة التي لاينبغي تركها لتمر مرور الكرام لأنها تحمل من المدلولات الخطيرة ما يتحتم الوقوف عنده واعتباره جرس إنذار لما يمكن أن يحيق بالمرحلة الانتقالية التي نحن بصددها وتكون عواقبه اختطاف ثورة25 يناير واغتصاب هيبة الدولة وشرعية القانون لحساب جماعات الضغط والسلفيين.
لايمكننا في هذا السياق إعفاء المسئولين في الدولة أيا كان موقعهم من وزر القرار غير المحسوب والذي يفتقر إلي الخيال السياسي باختيار محافظ قبطي لذات المحافظة للمرة الثانية علي التوالي, وهو القرار الذي أدي إلي انفجار الموقف في قنا لأنه صدر مفهوما مريضا مغلوطا يحمل نكهة الكوتة الكريهة وكأن منصب المحافظ القبطي بات ملتصقا بمحافظة قنا…ولعل هناك من التراكمات القديمة التي تؤيد ذلك المنحي مثل منصب وزير الهجرة ومنصب وزير البيئة اللذين دأبت الدولة علي تعيين وزير قبطي لهما لذر الرماد في عيون الأقباط, بينما كان ذلك في الحقيقة استخفافا بعقولهم…لكن منصب الوزير يختلف عن منصب المحافظ, وهذا ما أدي إلي انفجار موجة الغضب لدي أهالي قنا…أو بعض منهم علي الأقل من الذين شعروا أن كوتةالمحافظ القبطي أصبحت من نصيبهم!!
لم يكن من العسير علي إدراك المسئولين في الدولة أن يترجموا اهتمامهم بتعيين محافظ قبطي ببذل بعض الجهد في تنويع المحافظة- أو أكثر من محافظة-التي يعين عليها محافظ قبطي حتي يبدو الأمر أن المقصد وطني وأنه لا توجد حساسية,ولعله كان من الواجب في هذا الصدد إجراء دراسة ميدانية للبحث عن شخصية قبطية متوازنة لها عطاء واضح علي المستوي الشعبي في محافظتها لترشيحها لمنصب المحافظ ضمانا لقبولها وتيسيرا لها في الاضطلاع بمسئوليتها الجسيمة,بدلا من اتباع ذات السياسات العقيمة المنتمية إلي النظام السابق باللجوء إلي القرارات الفوقية السيادية التي علي الشعب الانصياع لها والتسبيح بحمدها إجلالا وعرفانا!!
وقبل أن نترك تجاوزات الدولة لايمكننا أن نعير ببساطة أمرين في غاية الخطورة:الأول تراخي المسئولين -وأولهم الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء-في التعامل مع الموقف بالسرعة والاهتمام الواجبين للحيلولة دون ترديه إلي تداعيات يصعب علاجها…فرئيس الوزراء هو أعلي ممثل للسلطة المدنية في الوقت الحالي, وعدم ذهابه إلي قنا للتصدي للانفلات الشعبي وتحدي شرعية القانون واستباحة هيبة الدولة ترك انطباعات مقلقة جدا لدي الكافة, ولم يكن مفهوما ولا مقبولا أن يستمر رئيس الوزراء في متابعة جدول أعماله العادي وهناك تمرد علي السلطة شمل استقطاع جزء من أراضي الدولة لحساب العصيان المدني…وزاد من غرابة الموقف أن يترك رئيس الوزراء قنا تشتعل ليذهب إلي سيناء للاجتماع بزعماء القبائل,كما كان مستفزا بعد ذلك أن يتجاهل تفاقم الأمور في قنا ليعلن عن زيارته لمنطقة الخليج…فإذا لم يكن الموقف العصيب المستفحل في قنا مدعاة لقطع رئيس الوزراء برنامجه المعد سلفا, فماذا يكون الموقف الذي يستدعي ذلك؟!!
أما الأمر الثاني الخطير الذي يخلق هواجس والذي لم يكن الأول من نوعه منذ قيام ثورة 25 يناير,فهو لجوء الدولة إلي إرسال القيادات الدينية والمشايخ إلي قنا للتفاوض مع المتمردين والخارجين علي القانون…وهنا أيضا أرصد غيابا خطيرا للخيال السياسي واندفاعا غير محسوب لسلوكيات رسمية تضحي بالقانون وبالشرعية وبمدنية الدولة لحساب الرموز الدينية التي كنا نظن أنه يلزم كبح جماح تدخلها في السياسة في المرحلة المقبلة.
تعمدت أن أبدأ بتسجيل تجاوزات الدولة في هذه القضية الشائكة لأني لا يمكن أن أتجاهل مسئوليتها في خلق المأزق السياسي الدقيق الذي ترتب علي قرار تعيين محافظ قنا, لكن جاء الآن دور التصدي لاحتجاج أهالي قنا علي القرار, وهو الاحتجاج الذي تردي إلي صور مرعبة من الانفلات أفقدتهم كل شرعية وكل تعاطف وطني, بل وضعتهم في مرتبة المتآمرين علي الوطن لحساب جماعات بعينها من المتأسلمين والسلفيين الذين ثبت تربصهم بالوطن وإصرارهم علي مصادرة الشرعية والقانون واختطاف الثورة…فما معني الهتافات الدينية التي لم يكفوا عن ترديدها؟…وما معني رفعهم لأعلام السعودية؟…هم أيضا أثبتوا تجردهم من أي خيال سياسي, فلو كانوا اكتفوا بالتظاهر والاعتصام في ميدان المحافظة سلميا لاكتسبوا قدرا من التأييد والتعاطف مع احتجاجهم ومطالبهم,لكن انسياقهم الكريه إلي قطع الطرق وتعطيل السكك الحديدية والتهديد بتعطيل المرافق العامة من قطع إمدادات الكهرباء والمياه هو عمل فج من أعمال تحدي سلطة القانون وشرعية الدولة لم تبق معه أية فرصة للاستجابة لمطالبهم وإلا كان ذلك بمثابة سابقة في غاية الخطورة لتراجع القانون وانسحاب الدولة أمام الإرهاب .
هكذا خلقت الدولة هذا الموقف المتفجر وعليها علاجه بالحكمة والتعقل قبل انقضاء فترة الشهور الثلاثة -دون اللجوء للعنف-لإعادة الأمور إلي نصابها الصحيح…وبعد أن يتم ذلك وتهدأ الأمور لعله من المحتم فتح ملف مسكوت عنه وهو ضرورة النظر في أمر منصب المحافظ نفسه بحيث يتم تحديده بالانتخاب وليس بالتعيين ليأتي انعكاسا للإرادة الشعبية دون غيرها..فقد ولي زمن اعتبار منصب محافظ الإقليم وكأنه ممثل الإدارة المركزية والرقيب الأمني علي الإقليم لحساب تلك الإدارة بدلا من أن يكون ممثل شعب الإقليم أمام الإدارة.