مثلما كانت ثورة 25 يناير, بركان غضب انفجر احتجاجا علي واقعنا السياسي, أتصور أن فضيحة اقتحام الجماهير المنفلتة لملعب استاد القاهرة الأسبوع الماضي, قبل نهاية مباراة الزمالك مع الأفريقي التونسي, يجب أن تكون الشرارة التي تفجر بركان غضب واحتجاج علي واقعنا الرياضي.. فالرياضة في بلادنا المصرية وخاصة لعباتها الجماعية وعلي رأسها كرة القدم باتت وسيلة لـالنكد!!.. لا صحة.. ولا ترفيه.. ولا أخلاق.. واقع كئيب منفلت غابت عنه جميع المفاهيم الراقية المتحضرة وسيطرت عليه قيم الغاية تبرر الوسيلة مما أدي إلي سيادة الغوغائية والبلطجة والإرهاب سواء من جانب القائمين عليها الذين كان عليهم إعطاء النموذج الذي يحتذي أو من جانب جماهير منفلتة فاسدة شوهت الرياضة وأساءت لسمعة مصر.
ومثلما ننادي بإعلاء سيادة الدولة وهيبتها إزاء من سولت لهم أنفسهم القفز علي ثورة 25 يناير وإفساد أهدافها السامية.. اليوم ننادي أيضا بالضرب بيد من حديد علي العابثين بكرامة الرياضة وأخلاقياتها, أولئك المرضي المتعصبون الذين لا يعرفون من الرياضة إلا الفوز بأي وسيلة – وحتي بلا استحقاق – أو إطلاق طوفان التسيب والانفلات والإرهاب والتدمير إذا استعصي عليهم الفوز.. إنهم مرضي لا يدركون سمو التنافس الشريف ولا متعة بذل كل الجهد من أجل الفوز ولا أخلاقيات تقبل الخسارة بروح رياضية والشد علي يد الفائز لتهنئته… كل هذه المعايير ذهبت, لتتحول الرياضة إلي معارك للذود عن الكرامة بين المتنافسين, الفائز فيها يرث المجد والشرف, بينما الخاسر نصيبه الخزي والعار, فما بالنا لو كان التنافس علي المستوي الدولي بين الشعوب؟.. هنا يتحول الأمر إلي معارك قومية للحياة أو الموت!!!
إننا نحتاج بشدة إلي مراجعة واقعنا الرياضي من أجل ترسيخ الأهداف التي نبغي إدراكها من خلال الرياضة, ولا يمكن أن يقتصر الأمر علي قرارات عقابية صارمة مطلوبة لردع المنفلتين, بل يجب تعرية المجال الرياضي برمته لتقييم دوره وتصحيح مساره, فلم يعد يصلح مع مرحلة التغيير التي تمر بها مصر أن نتعامل مع الرياضة علي أنها أداة لإلهاء الشعب عن واقعه!!.. وبالتالي نغمض عيوننا عن سائر التشوهات التي لصقت بها لسنين طويلة.. لم يعد يصلح الدفاع عن الإبقاء علي الرياضة في صورتها المريضة الحالية بذريعة أنها وسيلة ترفيه عن الشعب المطحون!!.. أي ترفيه هذا الذي نتيحه للشعب فتذبح الأخلاق وتغيب القيم ويسود النكد؟
يؤسفي أن أقول: بئس هذه النوعية من الرياضة, وبئس الانتصارات التي يفرزها مناخها المريض الإرهابي, وبئس البطولات التي يتم حصدها في ظل سيادة النعرات المتعصبة الكريهة, تلك بطولات مذاقها مر وسجلاتها مهينة تستوي مع الهزائم.
كتبت وكتب الكثيرون من أجل إعادة النظر في الرياضة ومراجعة أولوياتها علي المستوي القومي, هل الرياضة من أجل الصحة تأتي أولا أم الرياضة من أجل البطولة؟.. كيف نزهو بأية أمجاد حققتها الرياضة المصرية إذا لم تكن هذه الأمجاد انعكاسا حقيقيا لشعب يؤمن بالرياضة ويمارسها كأسلوب حياة من أجل الصحة قبل أن تكون مجرد وسيلة للبطولة؟.. ألا ندرك أن اتساع قاعدة ممارسة الرياضة للشعب كله بجميع مراحله العمرية هو الأصل ومن خلال ذلك تتعدد فرص واحتمالات إفراز المتميزين والموهوبين الذين يتم بعد ذلك رعايتهم وصقل قدراتهم لتوجيههم للبطولة؟.. لماذا لا نعي أنه دون ذلك يكون نصيبنا الشح في تفريخ الأبطال والكساد في ضخ الموهوبين؟
إذا كنا نشارك هذه الأيام في حوارات وطنية من أجل تشكيل القناعات والثوابت التي سترسم صورة مصر في المرحلة المقبلة, أرجو ألا نهمل مصير الرياضة أو نزيحها جانبا من قائمة الأولويات الواجب مراجعتها.. الرياضة ليست أنشطة كمالية بل أساسية.. ليست أنشطة ترفيهية لقضاء وقت الفراغ بل حيوية يجب أن تكون لها مساحة جادة محترمة في حياة المواطن.
إن سائر المتخصصين في العملية التعليمية والتربوية ينظرون إلي الرياضة كمنهج دراسي مهم لا يقل أبدا عن المناهج التعليمية ومقرراتها, ويفسحون له المجال الذي يليق به من أجل خلق جسم سليم مع العقل السليم ومن أجل غرس مفاهيم تربوية وأخلاقية تؤصل فكر الصحة والمتعة والكفاح مع احترام الآخر وتقديره وتقبل استحقاقه للفوز إذا تميز.
إن أقسي ما يؤلم النفس أن نتأمل المشاهد الكارثية التي تحدث في واقعنا الرياضي الهزيل المريض ونكتشف أننا ننتجها كل يوم ونصدرها إلي أطفالنا وشبابنا الذين يراقبوننا ويتخذون القدوة والمثل من كل ما نفعل.. يا للعار وياللفضيحة أن نشوه جمال الرياضة ونفسد حلاوتها بكيفية تفاعلنا مع منافساتها وبالأدوات التي نستحل توظيفها في هذا الإطار, التراشق اللفظي والبدني والسلوك العدواني.. ثم نلوم شبابنا إذا ورث ذلك الانفلات ونتساءل من أين أتي به؟!!
إذا أردنا أن نطهر مجال الرياضة مما اعتراه يلزم تطهيره من الغوغاء والمنفلتين بكل حزم وصرامة, كما يلزم أن نفعل كل شيء من أجل تحويل شعبنا من متفرج علي الرياضة إلي ممارس للرياضة.. بذلك نزيح النكد ونغرس الصحة والترفيه والأخلاق.