الأسبوع الماضي صدر تصريح منسوب لمصدر عسكري مسئول يقول إنه فور الانتهاء من الاستفتاء علي التعديلات الدستورية سيتم تعديل قانون الأحزاب بحيث يسمح بتأسيس الأحزاب فور الإخطار.. هذا التصريح كان له مردود طيب وسط الساحة السياسية المصرية واستراح له كافة المهمومين بأمر الإصلاح السياسي المرتقب, لأنه ينبئ بترسيخ مبدأ ديموقراطي أصيل طالما غاب عن معترك السياسة في بلادنا وهو إطلاق حرية تأسيس الأحزاب.
بالرغم من إصرار نظام الحكم في مصر عبر العقود الثلاثة الماضية علي التشدق بوجود تعددية حزبية ومناخ ديموقراطي, كان المشهد كئيبا مريضا تم التحكم فيه بدهاء شديد لتفريغ الساحة السياسية من أي منافسة حقيقية ضمانا لاستمرار هيمنة الحزب الوطني علي السلطة والحكم والاكتفاء بالسماح لباقة من الأحزاب الضعيفة بالتواجد لمجرد استكمال صورة باهتة للتعددية الحزبية بلا أدني فاعلية وبلا أي أمل في ممارسة تسمح بتداول السلطة.. وكانت من أهم أدوات تحقيق ذلك لجنة سيئة السمعة أطلق عليها لجنة شئون الأحزاب اضطلعت بسلطة الموافقة أو الرفض لأي حزب جديد يبغي الانضمام للساحة, حيث كان علي مؤسسي الحزب التقدم إلي اللجنة بتشكيله وبرنامجه السياسي لاعتماده, وبينما يملي المنطق والعدالة أن تتشكل هذه اللجنة من شخصيات محايدة لا تعمل بالسياسة وليس لديها انتماء حزبي جاء تشكيلها يفضح مهمتها غير المعلنة منذ سيطر عليها أقطاب الحزب الوطني الديموقراطي متحدين كل منطق وأدوا مهمتهم بنجاح باهر في رفض مجموعة من الأحزاب وقفت وراءها شخصيات مصرية قديرة لها باع طويل في العمل السياسي والفكر ومعها برامج جادة تحمل رؤي أمينة لمشاكل مصر وسبل علاجها.. هكذا دانت السلطة ليد النظام الحاكم وحزبه الوطني وصم الجميع آذانهم أمام الدعوات المتواصلة لتطهير الساحة السياسية بإطلاق حرية تأسيس الأحزاب.
الآن بات هذا الحلم ماثلا في الأفق, وإذا تحقق فسيفتح الباب لضخ دماء جديدة في المنظومة الحزبية بأمل خلق ممارسة سياسية عفية وجذب المصريين للمشاركة بفاعلية في حكم بلدهم.. الصورة علي إطلاقها طيبة تعكس رياح التغيير التي هبت علي مصر منذ 25 يناير, لكن الأمر برمته يظل رهن ما تضمنه التصريح الذي بدأت به هذا المقال من تعديل قانون الأحزاب, فذلك القانون هو المسئول عن رسم المسار ووضع الضوابط التي تكفل تأسيس أحزاب جديدة وفقا للدستور وبما لا يتعارض مع التوجهات الأساسية التي توافق عليها الشعب المصري من رفض تأسيس أحزاب تقوم علي أسس دينية أو طائفية أو تمثل تهديدا للوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي.. وتلك أسس في غاية الأهمية تتفق مع ثورة 25 يناير التي رفعت شعار نريدها مدنية لا دينية.
إذا لا يجب أن يتصور أحد أن إطلاق حرية تأسيس الأحزاب يعني إزالة أية ضوابط أو معايير حاكمة لاستيفاء عدم تعارض الحزب وتوجهاته وبرنامجه مع مبادئ الدستور, بل يتحتم وضع تلك الضوابط والمعايير, كما يتحتم تحديد الجهة المحايدة التي يناط بها تسلم إخطار تأسيس الحزب وتوجهاته, بحيث تتولي التدقيق والمراجعة ويكون لها حق طلب إيضاحات أو تعديلات من المؤسسين تمشيا مع مواد الدستور وروحه.. وقد يكون من الملائم تأكيدا علي الحرية الجديدة المكفولة أن تلتزم هذه الجهة بإنجاز عملها في فترة زمنية لها حد أقصي, فإذا ما لم يصدر عنها رفض رسمي مسبب خلال تلك الفترة اعتبر الحزب الجديد مقبولا وله الحق في الانضمام إلي الساحة الحزبية والعمل وسط الجماهير والمشاركة في كافة دوائر الممارسة.
ويثور تساؤل مهم في هذا الإطار: ماذا لو نجح حزب وليد في المرور إلي الساحة وخلت أوراقه وبرنامجه مما يتعارض مع الدستور, ثم تبين من خلال ممارسته العملية في الشارع ووسط الجماهير أنها حاد عن الأسس التي قام عليها وظهرت عليه أعراض تهدد بانزلاقه نحو تيارات دينية أو طائفية أو عرقية تفرز بين المصريين؟.. وهنا أعود وأقول إن أهمية وجود الجهة المحايدة التي أشرت إليها لا تنحصر في التدقيق والمراجعة عند بدء تأسيس الحزب فقط, لكن تظل عليها مسئولية المتابعة والرصد والتقييم لكل ممارسات الحزب وسلوكياته, ولها حق المراجعة والمساءلة إذا ما ثبت لديها خروج الحزب عن السياق الدستوري, بحيث تمتلك أدوات لفت النظر أو تعليق عمل الحزب لحين عودته إلي المسار الدستوري أو إلغاء عمله كلية إذا أصر علي المغامرة بالثوابت الوطنية والإطاحة بالدستور.
لا أتصور أن هناك مصريا غيورا علي صالح بلده ينزعج من تأصيل هذه الضوابط, وإذا كان هناك أي قدر من الهواجس الموروثة إزاء تسلط السلطة واستبدادها من خلال متابعتها للممارسة الحزبية, فيمكن وضع كافة الضمانات التي تكفل التظلم من قراراتها أمام القضاء, فلا يمكن أن يكون إطلاق تأسيس الأحزاب بالإخطار هو إطلاق حرفي بلا ضوابط وبلا متابعة إلا إذا أقدمنا علي إزالة أية حدود رسمها الدستور لتأسيس الأحزاب.