مرحبا بقرار مجلس القضاء الأعلي الذي صدر منذ أسبوعين بمنع نقل أو بث أو تسجيل أو إذاعة وقائع المحاكمات بواسطة أي وسيلة من وسائل الإعلام, علاوة علي حظر التداول الإعلامي لكل مراحل التحقيق والمحاكمة وعدم الخوض في مجريات الدعاوي القضائية قبل صدور الأحكام النهائية فيها…. كل ذلك اتقاء لإحداث بلبلة للرأي العام وزعزعة ثقته في عدالة القضاء.
قرار المجلس الأعلي للقضاء جاء في وقته -إن لم يكن متأخرا- ليضع حدا للمسكوت عنه من اندفاع الإعلام -صحافة وإذاعة وفضائيات تليفزيونية- نحو صناعة مادة مثيرة ساخنة من معظم القضايا التي شغلت الرأي العام في السنوات الأخيرة, وكان من الأمور المريحة أن يعقب هذا القرار مباشرة صدور تأييد مطلق له من المجلس الأعلي للصحافة بما يعكس الاقتناع التام بحتمية التدخل لإيقاف شتي أشكال العبث والمهنية غير المسئولة التي سادت في تغطية الإعلام للقضايا لمجرد خلق مادة مثيرة لجذب القراء علي حساب الأمانة المهنية وميثاق الشرف الصحفي, وبما يمثل اغتيالا لخصوصية وهيبة السلطة القضائية في بلادنا.
المتتبع لما ينشر عن مجريات ووقائع القضايا التي شغلت الرأي العام في الآونة الأخيرة, سواء كانت قضايا طائفية أو قضايا فساد أو جرائم متهم فيها شخصيات عامة سوف يذهله الدور الذي يقوم به الإعلام بدعوي تغطية وقائع القضايا…. إنه دور يبدأ عند الإعلان عن الحدث أو الجريمة حيث يهرع لتغطية كل ما يتصل بمسرح الحدث والأطراف المتصلة به, وذلك في حد ذاته ليس مكروها, لكن أن يتجاوز الإعلام هذا الدور ليجتهد في تصوير بواعث أطراف الجريمة وينحاز للبعض علي حساب البعض الآخر فذلك اعتداء علي دور جهات التحقيق وتضليل للرأي العام عن طريق ضخ تفسير معين للجريمة لا يتصل بما قد تكشفه التحقيقات وما قد تفضي إليه المحاكمات.
ثم يتواصل الدور الذي يقوم به الإعلام إلي الاحتشاد الهستيري الذي أصبحنا نراه ونسمع عنه حول قاعات المحاكم لتغطية وقائع جلسات المحاكمة -الأمر الذي بات يشكل عبئا ثقيلا علي الأجهزة الأمنية لفرض النظام والانضباط خارج وداخل القاعة- وتطورت قاعات المحاكم لتغدو أشبه باستوديوهات التصوير السينمائي من فرط تغلغل أجهزة الإضاءة والتصوير في شتي أرجائها, وما يتصل بكل ذلك من الأعداد الغفيرة للمصورين والفنيين والمحاورين الذين يتبارون في استقطاب أقارب المتهمين والمحامين -وحتي المتهمين أنفسهم إن أمكن!!- في أحاديث وحوارات وتصريحات سابقة ولاحقة علي الجلسات, بالإضافة إلي التجمهر حول منصة القضاء نفسها لتصوير وتسجيل كل ما يحدث من وقائع, الأمر الذي أفسد وشوه هيبة القاعة وهدوئها وصادر مناخ الاحترام والتركيز الواجب توفره فيها.
لم يكتف الإعلام بتلك التجاوزات بل للأسف عمل في كثير من القضايا علي اغتيال العدالة نفسها عندما نصب من نفسه محللا ودارسا للقضايا ومتنبئا بما سيصدر عنها من أحكام, ثم مندفعا نحو سلوك في غاية الخطورة للتعقيب علي الأحكام سواء تأييدا أو رفضا قبل أن تصدر الحيثيات المصاحبة لها وقبل أن تتحول إلي أحكام نهائية, مستدرجا في ذلك كثيرا من غير المسئولين وغير العالمين ببواطن الأمور للتعليق عليها وانتقادها.
إن الدرجة المتردية التي وصلت إليها شراهة الإعلام في إساءة استخدام حقه في متابعة القضايا التي تهم الرأي العام أصبح من المتعذر السكوت عنها أو السماح باستمرارها, وبات من المحتم وضع حد لها… فكيف لنا أن ننسي الدور المدمر الذي لعبه الإعلام في قضية مقتل فتاتي مدينة 6 أكتوبر التي عرفت باسم قضية هبة ونادين والتي استباح الإعلام فيها تصوير وقائع والتحدث عن تفاصيل وتوزيع اتهامات ثبت أنها كلها وهمية حتي إن المجلس الأعلي للصحافة أصدر بخصوصها تقريرا شجاعا يدين فيه ذلك العبث الذي ارتقي إلي حد الجريمة المهنية والذي أساء بشدة إلي ميثاق الشرف الصحفي.
والمتأمل لما يحدث الآن في قضية مقتل سوزان تميم المتهم فيها رجل الأعمال هشام طلعت مصطفي ورجل الأمن محسن السكري, أو قضية سرقة لوحة زهرة الخشخاش من متحف محمد محمود خليل المتهم فيها محسن شعلان وكيل وزارة الثقافة, سوف يلحظ بقدر كبير من الاستغراب كيف يتدخل الإعلام في تكييف وقائع القضيتين وكيف يؤثر بما ينشره في تقييم وتوقع الرأي العام لأطرافها بما يجعلني أشفق علي منصة القضاء في كل منهما من الضغوط التي تتعرض لها والجهود التي يتوجب عليها أن تبذلها لضمان حيادها وتركيزها وعدم تأثرها بتلك الضغوط.
أما آخر الأعاجيب التي وقفت أمامها مذهولا محتجا علي ما يحدث, فكان التصريح بنشر تفاصيل تحقيقات النيابة مع مذيع التليفزيون المتهم بقتل زوجته!!!… ولولا أن النشر كان في صحيفة الأهرام العريقة لشككت أن ما نشر كان بغير تصريح أو أنه تم الحصول عليه بغير الطريق الشرعي… لم أصدق نفسي وأنا أقرأ علي صفحتين كاملتين التفاصيل الكاملة -سؤالا وجوابا- لنص استجواب النيابة للمتهم في وقائع الجريمة وبواعثها قبل صدور قرار الاتهام وإحالته للمحاكمة-ناهيك عن أن ما نشر لم يخل من تفاصيل بشعة صادمة للقارئ وصافعة لكل القيم والمثل حول ملابسات العلاقة التي نشأت بين الجاني والضحية وكيف تطورت إلي أن نتجت عنها الجريمة.
قرار مجلس القضاء الأعلي جاء في محله بعد أن طال انتظاره… وأتطلع إلي اليوم الذي تطالعنا أخبار مختصرة محافظة عن مجريات القضايا في محاكمنا تكون مصحوبة برسومات تخيلية عن المشاركين في الجلسة -بدلا من أي تصوير- كما تعودنا أن نري في المجتمعات المحترمة المنضبطة.