بعد جهود مضنية لتقريب المواقف المتباينة وبعد حلقات متواصلة من المفاوضات كان قد تم الشهر الماضي توقيع اتفاق المصالحة بين طرفي النزاع في قضية دير أبو فانا,تلك القضية التي شغلت الرأي العام لفترة طويلة واشتملت علي اعتداءات غير مسبوقة من جانب العربان في المنطقة علي الدير ورهبانه لمنعهم من بناء سور حول قطعة الأرض المملوكة للدير,ولأول مرة منذ عصور هجمات البربر علي الأديرة القبطية يشهد النزاع جريمة خطف عدد من الرهبان وتعذيبهم وإلقاؤهم علي قارعة الطريق بين الحياة والموت.
اشتمل الاتفاق الذي تابعته وسائل الإعلام في حينه علي تثبيت المساحة المملوكة للدير وإقرار المساحة التي يتركها الدير من أجل فتح طريق يسلكه العربان,والسماح للدير بعد ذلك باستئناف بناء السور حول المساحة المملوكة له,كما اشتمل الاتفاق علي ضرورة تقديم الجناة المعتدين إلي العدالة لأن المصالحة لا تعني إطلاقا الصفح عن الجناة أو التنازل عن حقوق الضحايا أو التفريط في حق المجتمع في معاقبة الخارجين علي القانون.
مع توقيع الاتفاق -وبالرغم من جسامة الحادث الإجرامي المؤسف-اصطف جميع أطراف الخصومة أمام كاميرات وسائل الإعلام والابتسامات ملء أفواههم,وتوالت علينا الصور تسجل المصافحات والمجاملات المبالغ فيها في حضور وتحت رعاية المحافظ حتي أن من بين تلك الصور كانت صورة طريفة تركز علي جزء من أساسات السور قبل صب الأعمال الخرسانية به وقد ألقيت فيه بعض قطع العملة المعدنية مثلما يتبع عند الاحتفال بوضع حجر الأساس للمشروعات الكبيرة…والحقيقة أن تلك المبالغات المألوفة والمشاعر والعواطف التي تجاوزت المنطق المقبول لم تكن مقنعة ولا مريحة وخلفت قدرا من التوجس في داخلنا,لكننا كتمنا ذلك ولم نشأ أن نفسد الفرح وتمنينا أن تسير الأمور علي ما يرام.
توالت الأيام وبدأت الأنباء تتواتر علينا بما لا يحمل بوادر طيبة,فالقائمون علي بناء السور الذي تم الاحتفال بوضع حجر الأساس له(!!)بدأوا يتضررون من المحافظ,متهمين إياه بعرقلة تنفيذ الاتفاق وبوضع العراقيل أمامهم ,وطبقا لروايتهم قام المحافظ بتحديد مهلة زمنية فترة شهرين لإنهاء تنفيذ جميع أعمال السور الذي يمتد مسافات طويلة حول الأرض البالغة مساحتها 505 أفدنة(!!)وأنه لن يسمح بأي أعمال بعد تلك الفترة حتي وإن كان ذلك سوف يسفر عن ترك جزء من المساحة بلا سور(!!)وهنا احتج المعنيون بالأمر من جانب الدير وطلبوا السماح لهم بإدخال المعدات والآلات إلي الموقع للمعاونة في سرعة إنجاز الأعمال إذا كان هناك أمل في إنهائها في الفترة المحددة-علي غرابتها وافتقارها إلي أي منطق هندسي أو سياسي-لكن جاء الرد الغريب من المحافظ برفض السماح بالاستعانة بالمعدات…وكأن النية مبيتة لإفشال تسوير الأرض,الأمر الذي لا يخفي علي أحد أنه يتركها بذلك عرضة للاستباحة والاقتحام مرة أخري ويخلق منها قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار مجددا!!
أما ما أفاد به المسئولون بالدير وأكد أن هناك تربصا لعرقلة سريان الاتفاق فهو إصرار المحافظ علي عدم ارتفاع السور أكثر من واحد ونصف متر عن سطح الأرض!!وهو الأمر غير المفهوم وغير المبرر بل والمضحك من الناحية الهندسية والذي لا يستقيم مع سائر اشتراطات بناء الأسوار في مثل تلك الاستعمالات للأراضي وتبعيتها للأديرة.فالثابت تاريخيا وهندسيا أن الأديرة بمالها من خصوصية تكون محاطة بأسوار مصمتة يتراوح ارتفاعها بين ثلاثة وأربعة أمتار,وذلك الارتفاع يحميها من التلصص ومن محاولات الاقتحام,أما أن يصر المحافظ علي قصر ارتفاع السور علي متر ونصف المتر فإنه وضع يستلزم الإيضاح والمساءلة,لأن في بعض الحالات الأخري مثل حالات المباني السكنية أو الخدمية أو الصناعية يكتفي بالجزء المصمت من السور بارتفاع محدود علي أن يعلوه جزء آخر من الحديد لاستكمال الارتفاع الآمن…لكن في جميع الأحوال لا ينطبق ذلك علي أسوار الأديرة أو الأراضي التابعة لها.
وجاء مسك الختام في مسلسل إصرار المحافظ علي عرقلة تنفيذ الاتفاق مع بدء شهر رمضان,إذ يقول القائمون علي الدير إن هناك ضغوطا تمت ممارستها عليهم من جانب المحافظ,من أجل إجبار الرهبان الذين تعرضوا للاختطاف والتعذيب إبان الأحداث علي التنازل عن بلاغاتهم للنيابة وعن المحاضر الرسمية التي تم تحريرها والثابت فيها اتهامهم لأشخاص بعينهم من المقبوض عليهم والمنتظر تقديمهم للعدالة,ذلك التنازل مطلوب كما قيل لهم حتي يمكن إطلاق سراح أولئك المجرمين حتي يقضون شهر رمضان مع أسرهم!!!
إن ما يحدث في مأساة دير أبوفانا علي أثر اتفاق المصالحة ينبئ بإهدار جميع بنود المصالحة ويهدد بمأساة أخري…الغريب أن وسائل الإعلام التي احتشدت لتسجيل اتفاق المصالحة واحتفت به في حينه-وخاصة الرسمية منها-لم تهتم بمتابعة تنفيذه وتغض النظر عن كشف ما يحدث هناك علي أرض الواقع بعد انتهاء الاحتفال ورحيل الكاميرات…أما الأكثر غرابة,والذي انتظرته طويلا قبل أن أكتب أملا في أن يجئ لكنه لا يجئ,فهو بيان رسمي صادر عن القيادات الكنسية المسئولة والتي شاركت في المفاوضات وفي الاحتفال بالاتفاق وبالمصالحة,يسجل كيف يتم بشكل دؤوب اغتيال الاتفاق وإفشاله…أليس ذلك غريبا؟!!