عندما احترقت دار الأوبرا المصرية في سبعينيات القرن الماضي تصادف وجودي في المكان ووقفت أرقب المشهد المؤلم لمحاولات قوات الإطفاء إنقاذ المبني التاريخي العريق دون جدوي,وشاهدت رجالا تبكون بحرارة علي ضياع ذلك التراث العزيز ويتحسرون علي فداحة الخسارة…واليوم بعد نحو أربعة عقود علي حريق الأوبرا لا يتكرر المشهد في الحريق المروع الذي أتي علي مجلس الشوري وأتي معه علي جزء عزيز عريق من تاريخ مصر…تاريخها المعماري أولا ثم تاريخها السياسي والبرلماني …لم أشهد ولم أسمع أحد المصريين وقف في الشارع يبكي أمام المشهد المروع لألسنة اللهب تتصاعد في عنان السماء,وتساءلت:هل تبلد إحساس المصريين ما بين حريق الأوبرا وحريق الشوري؟…هل رحل الجيل الذي بكي الأوبرا وعرف قيمتها وبقي جيل يجهل تاريخ مصر ومنبع حياتها البرلمانية؟…لم أدرك إجابة شافية مقنعة علي هذه الأسئلة,لكن الإجابة التي صدمتني بالفعل ووقفت أمامها متألما مستنكرا بالرغم من تفهمي لبواعثها جاءت من جيل الشباب-وأعتذر عنهم للقارئ لقسوتها-فقد عبروا عن إحساس بالشماتة في الحكومة والمسئولين ونفوا تماما أن يكون اعتراهم أي إحساس بالأسف أو بالخسارة إزاء ما حدث…وهذه مصيبة لعلها أفدح من حريق الشوري ذاته,لأنها تدق ناقوس الخطر وتنذر بانفصال كامل لشباب هذا البلد عن تاريخه لا يقل عن انفصاله وتهميشه عن حاضره وتؤكد الكارثة المسكوت عنها بأن الشباب يفتقد تماما إحساس الانتماء ويعتبر أن مصر بلد الحكومة والسلطة وذوي المال والنفوذ,أما الغلابة والكادحين ومعدومي الفرصة والأمل,فهم طبقة العبيد المسخرة لخدمة الأسياد!!
أعود إلي مأساة حريق مجلس الشوري لأقولبئس المسئولين وبئس تصريحاتهمالتي أعقبت ما حدث,فهي تصيب المرء بالغثيان والحنق,لأنها تخدعنا وتستخف بعقولنا…إن ملابسات ما حدث تعد فضيحة بجميع المقاييس الهندسية والإدارية,وكان من الواجب علي المسئولين أن يستشعروا العار كل العار فيما حدث…إن مثل تلك الملابسات المشينة التي كشفها حريق الشوري لو أنها حدثت في أي من بلدان العالم المتحضر,لأدت إلي سلسلة من استقالات المسئولين في الهرم المتصاعد لمراتب المسئولية والسلطة,وفي بعض البلدان كان يمكن أن تؤدي إلي انتحار المسئول بإطلاق الرصاص علي نفسه, هربا من عذاب المسئولية واستحالة مواجهة أقرانه في المجتمع بعدما حدث في المرفق الذي يجلس علي قمة السلطة فيه.
أما في حالتنا فالأمر يدعو للاشمئزاز والرثاء للحالة المتهرئة التي وصلت إليها الإدارة المصرية والجرأة الغريبة التي يظهر بها كافة المسئولين ليمطرونا بالتصريحات لتبرير ما حدث وإخطارنا بما هم مزمعين أن يتخذوه من تدابير لعدم تكراره…مرة أخري يتكرر السيناريو المألوف حيث تظهر درجات عظيمة من عبقريات المسئولين ودرايتهم يقدمونها لتفنيد وتبرير ما حدث,وهم في الحقيقة لا يدرون أنهم في كل كلمة يتفوهون بها يقدمون إدانة مفزعة لأنفسهم وأنظمتهم,التي يتربعون علي قمتها تفجر سؤالا صارخا:أين كانت تلك العبقريات والأدبيات قبل الكارثة,ولماذا لم تستخدم في تفادي وقوعها كما تستخدم الآن في تبرير وقوعها؟!!
يؤسفني أن أقول إن ما حدث في حريق الشوري يمثل صفعة قوية مدوية لكرامة مهنة الهندسة في مصر,لأن الهندسة ليست فقط تصميم وتشييد المباني,إنما تمتد إلي جميع الشبكات والمرافق التي تعمل من خلالها المباني,وشتي أنظمة الأمان والإنذار والرقابة والتفتيش والصيانة التي تخضع لها المباني…وفي حالتنا بالنسبة للمباني التاريخية العريقة ذات الطابع الأثري المهم تتضاعف عدة مرات جميع تلك العناصر وأهميتها…لذلك أتصور أنه كان من الواجب علي نقابة المهن الهندسية باعتبارها الأمينة علي أصول ممارسة المهنة والمنوط بها الذود عن كرامتها,أن تهب صارخة لتحاسب شتي الكوادر الهندسية المسئولة عن مجلس الشوري وتمارس حقها وسلطتها في الحساب والعقاب الذي يصل إلي حد الشطب ومنع الممارسة تبعا لجسامة الخطأ.
الآن يتحفنا المهندسون والسياسيون والمسئولون بالحديث عن خطط لمراجعة جميع المنشآت الحكومية والمباني المهمة,لتزويدها بأنظمة الإنذار ضد الحريق وأنظمة الإطفاء الآلي…
إنها حقا لكارثة,أن يتم تضليل الرأي العام وخداع غير المتخصصين بالإيعاز بأن تلك الأنظمة من الأمور الحديثة التي لم نكن نعرفها والتي يجري دراسة إدخالها علي مبانينا…إن ذلك لهو العار والفضيحة,لأن تلك الأنظمة يعرفها مهندسونا منذ نعومة أظفارهم ويجري تضمينها جميع التصميمات الكهروميكانيكية في شتي مبانينا العامة والخاصة,لكن أن يطلع علينا أحد المسئولين ولا يخجل أن يصرح بأن مجلس الشوري غير مزود بأنظمة الإنذار والمكافحة للارتفاع الباهظ لتكاليفها,فأظن أن مثل ذلك التصريح يتجاوز جدا مساحة الجهل التي يعكسها,ويصل إلي حد الجريمة الواجب محاكمة صاحبها عليها…أيضا كان من العار أن يصرح مسئول آخر أن قوات أمن مجلسي الشعب والشوري هرعت لمكافحة الحريق فور مشاهدتها ألسنة النيران تتصاعد من المبني!!!
صحيحإن شر البلية ما يضحك أن يقتصر رد الفعل وتنبري الهمة علي ما بعد مشاهدة النيران في السماء!!!
حريق مجلس الشوري أظهر أول ما أظهر الشيطان الذي يرقد في جميع تفاصيل حياتنا,الشيطان الذي يتركنا نعرف ولا نعمل,ويدفعنا إلي أن نتكلم ونبرر ونلتمس الأعذار ولا نحاسب,ويصيبنا بداء الاستسلام واللامبالاة والتبلد والعجز…أخشي أن هذا الشيطان هو أنفسنا.