أخشي ما أخشاه أن يجرفنا تيار الخطابة الرنانة الذي تعلو نبرته يوما بعد يوم بعيدا عن المسار العاقل الواجب أن نسلك فيه لنعالج المشكلة الطائفية التي فجرتها جريمة نجع حمادي…وأقول فجرتها جريمة نجع حمادي لأنني أفصل بينهما,فالجريمة لها أبعادها وجذورها الاجتماعية والثقافية والسياسية بجانب بعدها الديني,بينما الواقع المختل المعاش للمشكلة القبطية له جذور وملامح منفصلة عن الجريمة,طالما تمت إزاحتها جانبا كلما دعت الضرورة إلي مواجهتها والتصدي لها…وها قد جاءت مأساة نجع حمادي لتدفع بها إلي السطح ولتعلو أصوات الوطنيين المصريين-مسلمين وأقباطا-مطالبة بإصلاح حقيقي هذه المرة ولوضع حد نهائي للنزيف الطائفي الذي لا ينقطع عن جسد المواطنة.
عقب مأساة نجع حمادي صدرت بيانات صريحة شجاعة تولت تشخيص الداء ووصف الدواء للمشكلة القبطية, يحضرني منها علي سبيل المثال لا الحصر البيان الصادر عن حزب التجمع وبعض البيانات الصادرة عن منظمات حقوقية,وكان علي رأسها جميعا البيان الذي تناولته تفصيلا في مقال سابق والذي أصدره المجلس القومي لحقوق الإنسان-المجلس الرسمي التابع للدولة-والذي صرح رئيس المجلس الدكتور بطرس غالي لدي صدوره بأنه جار رفعه للرئيس مبارك…وتلك البيانات جميعها اشتركت في أنها تجاوزت البكاء علي نجع حمادي واتجهت إلي التوصيات المحددة للتغيير التشريعي والإصلاح المأمول إذا أردنا عدم تكرار نجع حمادي مرة أخري.
توصيات محددة شملت تجريم الاعتداء علي الأقباط وكنائسهم وممتلكاتهم بل وعلي أمنهم وسلامهم وحياتهم,وشددت علي عدم اللجوء إلي جلسات الصلح العرفية كبديل لإعمال القانون وإنزال القصاص بالمعتدين…توصيات تناولت حساب ومساءلة المسئولين عن بث وإزكاء روح الكراهية والعداء لدي الغوغاء والمجرمين…توصيات طالبت بمراجعة وإصلاح وتطهير المقررات التعليمية والكتب المدرسية مما تتضمنه من غرس ثقافة الفرز وتفضيل المواطن المسلم علي من عداه من المصريين والدين الإسلامي علي ما عداه من الأديان..توصيات صرخت من أجل وضع حد للانفلات الإعلامي الذي يقتحم كل بيت ويتولي تديين كل شئ في المجتمع لصالح الفكر الأصولي السلفي المتعصب…توصيات ألحت علي إلغاء التمييز التشريعي بين المسلمين والأقباط في شأن بناء دور العبادة والإسراع بإصدار القانون الموحد لبناء دور العبادة.
تلك كانت بداية مريحة ومشجعة تبعث الأمل في أننا قد نكون علي بداية طريق إصلاح حقيقي ملموس ومعاش وأننا مقبلون علي تغييرات تشريعية شجاعة..وأذكر في هذا الصدد بعض الأمثلة والمواقف الجديرة بالتسجيل:
**الدكتور أحمد كمال أبو المجد نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان في معرض تناوله لحتمية إصدار القانون الموحد لبناء دور العبادة قال:بالرغم من عدم اطمئناني الكامل إلي أن إصدار هذا القانون سوف يعالج جميع المشاكل المتعلقة بالكنائس,إلا أنني أؤكد أن التلكؤ في إصداره يرسل إشارة سلبية ومغلوطة للشارع المصري مؤداها أن الدولة ترضي عن التمييز بين المسلمين والأقباط في هذا الإطار وذلك له مردوده المدمر.
**الدكتور علي الدين هلال كتب:….من يريد تشخيص الأسباب واقتراح الحلول واتخاذ القرارات عليه أن يطلع علي توصيات اللجنة البرلمانية التي رأسها الدكتور جمال العطيفي عام 1972 بعد أحداث الزاوية الحمراء-باكورة النزاعات الطائفية منذ أربعة عقود- أو علي وثائق وتوصيات المجلس القومي لحقوق الإنسان في هذا الشأن…فلا أعتقد أننا بحاجة إلي مزيد من التصريحات عن تسامح الإسلام أو عن علاقات المحبة العميقة التي تربط بين المسلمين والأقباط,لكننا بحاجة إلي تفعيل نصوص الدستور وإصدار تشريعات جديدة تجرم ازدراء الأديان وتحرم التمييز بين المواطنين علي أساس الدين.
**الأستاذ عزت السعدني في استعراضهروشتة الخلاص كتب:…الأقباط لهم علينا حقوق,ما الضرر في أن نكفلها لهم؟…كنائس جديدة نبنيها لهم,كنائس قديمة نرممها…مناصب عليا رفيعة نعطيها لهم مادامت من حقهم وذلك يستدعي إلغاء كل قيود وظائف الدولة التي توضع أمام توليهم إياها…تخصيص كوتة في مجلس الشعب ومجلس الشوري لهم أسوة بالمرأة.
**الدكتور مصطفي الفقي كتب عنالوعي الغائب…والرؤية المفقودة وخلص إلي الآتي:…الحل علي المدي الطويل لا يتحقق إلا من خلال التنمية الوطنية الصحيحة التي لا تقف عند حدود طائفية,فالمؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية وقبلها جميعا التعليمية مسئولة عن صياغة مستقبل هذا الوطن بغرس معايير المحبة والتسامح والمواطنة…ولعلي أطالب بالإسراع في إصدار القانون الموحد لدور العبادة لأنه سيمتص ما لا يقل عن خمسين في المائة من أسباب الاحتقان الطائفي ويرفع عن كاهل الوطن شبهة التمييز وتهمة التقصير.
***هذه نماذج عظيمة من حالة الاستنفار التي عبر بها المفكرون والسياسيون والكتاب والمثقفون عن ضرورة تغيير النظرة المتهاونة إلي بركان المد الطائفي اللعين الذي ينفجر في وجهنا بمعدلات متسارعة متقاربة زمنيا من بعضها البعض بشكل غير مسبوق…فهل وصلت الرسالة؟…أخشي ما أخشاه أن تطغي عليها الأصوات الزاعقة التي علت مؤخرا لتعود إلي النغمات القديمة لتجميل وتزييف الواقع وتتنكر لوجود مشاكل بدعوي الرد علي لجنة الحريات الدينية الأمريكية أو لشجب بيان البرلمان الأوربي فباتت تتشدق مرة أخري برفض التدخل في الشأن المصري-ومن قال إن التدخل مطلوب أو مرحب به؟!!-وبأن الأقباط يتمتعون بجميع الحقوق والواجبات علي قدم المساواة بغير تمييز…فإذا كان ذلك صحيحا ما المشكلة إذا؟!! ولماذا كتب الجميع مطالبين بالتغيير ؟!!…فليعرف أولئك أنه ليس بالكلام المعسول تحل مشاكل الأقباط.